مصطفى البارزاني.. صديق إسرائيل الذي قاتل أنظمة العراق لإقامة دولة كردية
مع حلول شهر مارس/ آذار من كل عام يستذكر الأكراد في العراق والعالم، الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى البارزاني، الذي ارتبط اسمه بالقضية الكردية وما مرت به من منعطفات كثيرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتقسيم منطقة الشرق الأوسط6.
البارزاني المولود في 14 مارس/ آذار 1903 توفي في الأول من الشهر ذاته عام 1979 عن عمر ناهز 76 عاما، جراء إصابته بسرطان الرئة بعد رحلة طويلة من الصراعات التي خاضها مع جميع حكام العراق في العهدين الملكي والجمهوري، وكذلك الحال مع إيران.
زعيم كردي
ولد الملا مصطفى بن الشيخ محمد عبد السلام عبد الله البارزاني، يتيما، في قرية بارزان، التابعة لمحافظة أربيل العراقية الواقع على المثلث الحدودي بين العراق وتركيا وإيران، إذ توفي أبوه قبل مولده بأمد وجيز.
لقب الملا (الشيخ) جاء من كونه ولد في بيئة دينية، عميدها مؤسس الطريقة النقشبندية (صوفية) في قرى بارزان سنة 1825 وهو الشيخ عبد الله بن الملا بكر، الذي عرف في وثائق المتصوفة (بتاج الدين) أو (بتاج الدين العباسي) وهو جد البارزاني الثاني، أما جده الأول فهو الشيخ عبد السلام وكان إمام النقشبندية في تلك المناطق.
سجن مصطفى البارزاني وهو رضيع في السنة الثالثة من عمره في الموصل لمدة سنة كاملة مع والدته آنذاك، ثم شارك أخاه الأكبر الشيخ أحمد بارزاني بقيادة الحركة التمردية/الثورية الكردية في العراق للمطالبة بالحقوق القومية للكرد.
أخمدت الحركة الكردية من قبل السلطة الملكية في العراق وقوات الاحتلال البريطاني، وجرى قصف قرية بارزان من الطائرات البريطانية وقتل أكثر من (1000) كردي بين عسكري ومدني، وبعد ذلك هاجر البارزانيون وبينهم الشيخ أحمد البارزاني وملا مصطفى البارزاني إلى تركيا.
أعادتهم تركيا إلى العراق ليجري نفيهم من الحكومة العراقية إلى مدينة البصرة جنوب العراق وبعدها إلى مدينة السليمانية شمال البلاد سنة (1935) لمدة 10 سنوات، بعدها تسلّم الملا مصطفى القيادة من أخيه الشيخ أحمد ليكمل ما بدأ به أجداده من ثورات في سبيل إقامة دولة كردية.
خلال هذه الفترة نسق البارزاني مع حزب "هيوا" الكردي ليهرب من منفاه إلى منطقة كردستان إيران سنة (1942) وبعدها عاد إلى قريته بارزان ليبدأ بالتمرد من جديد.
أعلن تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني (يرأسه حاليا نجله مسعود البارزاني) من إيران في 15 أغسطس/ أب 1945 الأمر الذي أدى بالحكومة العراقية إلى البدء باعتقال أعضاء الحزب.
شارك البارزاني في قيام جمهورية مهاباد الكردية في إيران عام 1946، ولما قضي عليها لجأ مع مجموعة من رجاله إلى الاتحاد السوفيتي، وهناك قضى وقته في دراسة اللغة الروسية والتدريب العسكري ودراسة الماركسية.
ثائر كردي
في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1958، بعد الانقلاب على الحكم الملكي، عاد الملا مصطفى البارزاني إلى العراق، حيث كان مؤيدا للثورة ضد النظام الملكي في البلد، فأيدها وساندها بقوة.
وعند عودته للعراق رحب به عبد الكريم قاسم قائد الانقلاب على النظام الملكي، وأول رئيس وزراء في العهد الجمهوري، جرى إسكانه في قصر نوري السعيد (آخر رئيس حكومة في العهد الملكي)، وصرف راتب وزير للملا مصطفى البارزاني.
بعدما لمس من بغداد التسويف والمناورة والمماطلة في الالتزام بالوعود وإقرار حقوق الكرد القومية، طبقا لما ورد في الدستور المؤقت حينئذ، طالب الزعيم الكردي وحزبه بإلغاء الأحكام العرفية الاستثنائية، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، والتوقف عن التدخل في الحياة المدنية والنقابية والسياسية، والبدء في الانتقال إلى بناء الدولة الوطنية وإجراء الانتخابات.
حاول الحزب الديمقراطي الكردستاني الضغط على نظام عبدالكريم قاسم، وأعلن إضرابه السياسي الشهير بكردستان، في سبتمبر/أيلول 1961، لكن بغداد سعت إلى إنهاء الإضراب بقوة سلاح الشرطة والجيش والطائرات الحربية، وحركت قوات كبيرة من الجيش باتجاه كردستان، وفقا لرواية الصحفي الكردي هوشنك أوسي، في 13 فبراير/ شباط 2013.
إثر ذلك، اندلعت ما يسميها الأكراد "الثورة الكردية الأولى" في 11 سبتمبر/ أيلول 1961، ودارت معارك عنيفة بين الجيش العراقي والمسلحين الأكراد بقياد البارزاني، وحدثت انعطافة تاريخية ودموية في العلاقة بين الكرد والنظام الحاكم في بغداد.
بعد نحو عامين من المعارك العنيفة بين الجيش العراقي والمقاتلين الأكراد بزعامة مصطفى البارزاني، توقفت الحملة بعد وصول الرئيس عبد السلام عارف إلى الحكم عام 1963، بانقلاب عسكري على نظام عبد الكريم قاسم.
في 10 فبراير/شباط 1964، جرى توقيع هدنة لوقف إطلاق النار، وحصل الكرد بموجب هذه الهدنة على بعض الحقوق القومية التي كانت تضم 8 نقاط أدت إلى انشقاق الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جناحين، جناح المكتب السياسي وجناح بقيادة مصطفى البارزاني.
الجناح السياسي للأكراد اعترض على عدم ورود مصطلح الحكم الذاتي في اتفاقية فبراير/شباط، ولهذا اتهموا مصطفى البارزاني بأنه تنازل كثيرا لحكومة عارف، وفعلا بعد اجتماعات طويلة وزيارات مكوكية بين بغداد وحاج عمران لم تنفذ هذه الاتفاقية، وكانت النتيجة النهائية استئناف القتال في 2 أبريل/نيسان 1965.
صديق إسرائيل
بداية اندلاع الصدام مع عبد الكريم قاسم، قرر الملا مصطفى البارزاني فتح العلاقات مع الإسرائيليين وطلب منهم المساعدة العسكرية في حربه ضد بغداد، إضافة إلى المساعدات الطبية والإغاثية، ولم تتردد تل أبيب في تلبية طلبه، وفقا لتقارير صحفية منشورة مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2013.
وتفيد التقارير بأن الإسرائيليين كلفوا "ديفيد قمحي" أحد أهم مسؤولي الموساد بالاتصال مع البارزاني، وجرى الاجتماع بين الرجلين، حيث قال قمحي للبارزاني: "إسرائيل شديدة التعاطف مع القضية الكردية، وتدرك أن النضال سيكون طويلا، وإسرائيل مستعدة لتدريب المقاتلين الأكراد على حرب العصابات وأعمال التخريب".
قدمت إسرائيل للبارزاني راجمات 120 ملم (قاذفات صواريخ) يصل مداها 6 كليو مترات، وأنشأت إسرائيل مستشفى ميدانيا بمنطقة حاج عمران يضم 40 سريرا، وجرى تدريب الكوادر الطبية على التمريض والعناية بالجرحى، بحسب التقارير الصحفية.
في آب/أغسطس 1966 ورث عبدالرحمن عارف رئاسة العراق بعد موت شقيقه عبدالسلام في حادث تحطم طائرته فوق البصرة، والتقى الرئيس الجديد مع البارزاني لإنهاء الصراع.
سأله عارف "ما هي مطالبكم يا أبا لقمان؟ (يعني البارزاني) فرفع الملا مصطفى المصحف وقال: هذه مطالبنا، فقال عارف: تعلم أن لدينا صابئة ومسيحيين ويهودا ولا نستطيع تطبيق الشريعة وفق القرآن الكريم، فقال له البارزاني والله هذه هي مطالبنا طبقوها وسنضع السلاح!".
في 5 يونيو/ حزيران 1967، وبعد هزيمة الأنظمة العربية واحتلال إسرائيل للأراضي العربية، لم يتردد البارزاني بالاحتفال بالنصر الإسرائيلي، فذبح كبشا ضخما بالمناسبة، ولا يعرف سر ابتهاج البارزاني "المتدين" بتلك الكارثة، أكان فرحا بهزيمة الأنظمة أم بنصر إسرائيل؟.
وفي أبريل/ نيسان 1968، توجه البارزاني إلى إسرائيل في زيارة رسمية واجتمع مع رئيسها زيلمان شوفال الذي نصحه بأن يتخلى عن فكرة الحكم الذاتي، وأن يعمل من أجل إقامة دولة كردية مستقلة، وقابل أيضا وزير الدفاع موشيه دايان، وكان من المفروض أن تبقى الزيارة سرا لكن أمر الزيارة تسرب وانتشر خاصة بعد مقابلة جرت بين البارزاني ومحرري الصحف الإسرائيلية.
الصحفي الإسرائيلي "شلومو نكديمون" مؤلف كتاب "الموساد في العراق ودول الجوار" أكد الزيارة، كما أكد أيضا إليعيزر تسفرير ضابط الموساد الكبير مؤلف كتاب "أنا كردي"، تلك المعلومات التي لم ينفها المؤرخون الكرد وأكدها نجله مسعود البارزاني في فيلم وثائقي أنتج بإشرافه شخصيا، بحسب التقارير.
الحكم الذاتي
استمر الزعيم الكردي يحارب الحكومة العراقية حتى صدور بيان 11 مارس/ آذار 1970 في عهد حزب البعث (اتفاقية الحكم الذاتي للأكراد أو محادثات السلام العراقية – الكردية) هي اتفاقية جرى توقيعها بين صدام حسين نائب الرئيس العراقي آنذاك، والملا مصطفى البارزاني، من أجل إنشاء منطقة حكم ذاتي.
تتألف المنطقة من المحافظات الكردية الثلاث (أربيل، دهوك، السليمانية) والمناطق المتاخمة الأخرى التي تم تحديدها حسب التعداد بأن لها أغلبية كردية. وتنص الاتفاقية أيضا على تمثيل الأكراد في الهيئات الحكومية، على أن تنفذ هذه الخطة في 4 سنوات.
كانت تلك أهم محاولة لحسم الصراع العراقي – الكردي الذي طال أمده، وفيها اعترفت بغداد بالحقوق القومية للأكراد مع تقديم ضمانات للأكراد بالمشاركة في الحكومة العراقية واستعمال اللغة الكردية بالمؤسسات التعليمية، لكن لم يتم التوصل إلى حل حاسم بشأن قضية كركوك التي بقيت عالقة بانتظار نتائج إحصاءات لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في المدينة.
جرى التخطيط لإجراء تلك الإحصائية المهمة عام 1977، لكن اتفاقية آذار كانت ميتة قبل ذلك التاريخ، حيث ساءت علاقات الحكومة العراقية مع الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني وخاصة عندما أعلن البارزاني رسميا حق الأكراد في نفط كركوك.
اعتبرت الحكومة العراقية إصرار الأكراد بشأن كردية كركوك كإعلان حرب وهذا ما دفع الحكومة العراقية في مارس/ آذار 1974 إلى إعلان الحكم الذاتي للأكراد من جانب واحد فقط دون موافقة الأكراد الذين اعتبروا الاتفاقية الجديدة بعيدة كل البعد عن اتفاقيات سنة 1970.
لم يعتبر إعلان 1974 مدينة كركوك وخانقين وجبل سنجار من المناطق الواقعة ضمن مناطق الحكم الذاتي للأكراد وأطلقت تسمية محافظة التأميم على كركوك، وبعدها فشلت خطة السلم للحكم الذاتي الكردي، واندلعت مرة أخرى الحرب العراقية – الكردية الثانية في عام 1974، ما أدى إلى تصعيد النزاع.
محاولات اغتيال
تعرض الملا مصطفى البارزاني، لمحاولتي اغتيال، الأولى في 29 سبتمبر/ أيلول 1971، حيث وصل وفد من الحكومة العراقية بسيارتين برئاسة عبد الجبار الأعظمي لمقابلة البارزاني في مقره بحاج عمران قرب الحدود العراقية الإيرانية، ومع بدء الاجتماع بين البارزاني والوفد الحكومي حصل الانفجار في غرفة الاجتماع.
وبسبب علاقة الأعظمي بالبارزاني وحالة التقارب ما بين الحركة الكردية والحكومة العراقية، فإن إجراءات التفتيش للوفد الحكومي لم يصحبها التدقيق والتفتيش الكثير، وقتل جراء الانفجار 3 من أعضاء الوفد الحكومي، إضافة إلى شخص آخر يقوم بأعمال خدمية، وإصابة البارزاني بجرح بسيط.
أما محاولة الاغتيال الثانية، فكانت في 20 يوليو/ تموز 1972، واتهمت القيادة الكردية صدام حسين بالوقوف وراءها، لكن وبعد قيام (ناظم كزار) مدير الأمن العام في بغداد بمحاولته الانقلابية مطلع يوليو/ تموز/ 1973 وإلقاء القبض عليه وإعدامه، برر النظام العراقي بأن الأخير كان وراء التخطيط وتنفيذ جريمتي الاغتيال.
بعد توقيع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران اتفاقية ترسيم المياه بين البلدين، في مارس/آذار 1975، ألقى البارزاني السلاح وتوجه إلى حليفه شاه إيران الذي تنكر له، وأقام في طهران فترة من الوقت ثم انتقل، في عام 1976، إلى الولايات المتحدة الأميركية للعلاج من سرطان الرئة.
توفي البارزاني في مارس/آذار 1979 بالولايات المتحدة، ثم نقل جثمانه إلى طهران ومنها إلى أورمية شمالي غربي إيران بموافقة حكومة الثورة الإيرانية حيث ووري التراب في بلدة أوشنافيه.
وفي عام 1980، قامت مجموعة ماركسية من أكراد إيران بالعبث بقبر الملا مصطفى، فاستعاده البارزانيون وأعادوا دفنه في معقلهم الجبلي بمنطقة ريان الواقعة قرب الحدود مع العراق.
وفي خريف عام 1993، نقلت طائرة عمودية إيرانية جثمان البارزاني مرة أخرى إلى الحدود العراقية حيث دفن في كردستان بناء على وصيته.
للزعيم الكردي، 7 من الأبناء والبنات، وهم: "عبيد الله، مسعود، نهاد، إدريس، وجيه، سيهاد، وعمر"، حيث أخلفه في قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، نجله مسعود، ويرأس إقليم كردستان العراق حفيده نيجيرفان إدريس البارزاني.
المصادر
- مصطفى البارزاني
- الملا مصطفى البارزاني.. قدر الأمة الكردية
- الملا مصطفى البارزاني
- تاريخية العلاقة بين البارزاني وإيران.. كيف تعاطى الزعيم الكردي مع متغيرات التاريخ؟
- كوردستان تستذكر الذكرى 41 لوفاة الزعيم الكوردي مصطفى بارزاني
- المُلا مصطفى البارزاني السياسي المحارب.. الأيقونة والإرث واللحظة الكردية
- الملا مصطفى البارزاني منذ ولادته كرم التاريخ وجعله يعانق الأمم
- اتفاق الحكم الذاتي العراقي–الكردي 1970
- يوم اعترف العراق بالحكم الذاتي للأكراد.. هل كان إقرارا بحقوقهم أم لزرع الانقسام في صفوفهم؟
- الجزء الثاني من - أحداث ساخنة في الصراع بين السلطة في العراق والحركة الكردية ١٩٦٨ – ١٩٧٥