عفّت التركية.. أميرة تزوجت الملك فيصل فغيرت وجه السعودية للأبد

12

طباعة

مشاركة

في بداية تأسيس "الدولة السعودية الثالثة"، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، كان التعليم الشعبي موجودا في "الكتاتيب" بصورته البدائية، لكن للرجال فقط، فالبنات كن محرومات منه بسبب العادات القبلية، وسطوة المتشددين.

لكن انتقال الملكة "عفت" من تركيا إلى بلاد الحرمين في عام 1931، واقتحامها بعد ذلك عالم الملوك والسلطة في هذا البلد الذي كان يلقب آنذاك بأرض الرجال، كسر المعادلة، وغيّر وجه المملكة إلى الأبد.

فبفضل جهودها تسربت الثقافة إلى المجتمع السعودي برجاله ونسائه، بعد أن فتحت "عفت" الأبواب على مصراعيها أمام المرأة هناك، ومكنتها من الحصول على حقها بالتعليم، لتكون بذلك إحدى أهم بُناة الدولة الوليدة، مستعينة بما تعلمته في تركيا.

الملكة الوحيدة

توالى على كرسي العرش في المملكة العربية السعودية، منذ تأسيسها عام 1932 7 ملوك، هم الملك عبد العزيز، ثم سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، وصولا إلى الملك سلمان، لكن في عهد فيصل بن عبد العزيز وحده، ظهرت من لقبت لأول مرة بـ"الملكة".

هذه الملكة هي عفت بنت محمد بن عبد الله بن ثنيان، زوجة الملك فيصل، ووالدة وزير الخارجية السعودي الأسبق الأمير سعود الفيصل، ورئيس الاستخبارات الأسبق الأمير تركي الفيصل.

وُلدت "عفت" في عام 1915 بمدينة إسطنبول ودرست في مدارسها، وهي المدينة التي وُلد وعاش فيها والدها أيضا، والذي تزوج من سيدة تركية تدعى "آسيا هانم"، تعرف عليها عندما كان جنديا يخدم في الجيش التركي.

شهدت "عفت" التي يُطلق عليها كثيرون وصف "المرأة التركية"، سقوط الدولة العثمانية، وتأسيس الجمهورية الجديدة على يد مصطفى كمال أتاتورك، مطلع عشرينيات القرن الماضي. فضلا عن معايشتها لصراع القوى الأجنبية على تقسيم إرث الدولة العثمانية.

كان لهذه الأحداث الأثر البالغ في توسيع مداركها وإلمامها بالأحداث والصراعات السياسية الإقليمية والدولية، إضافة إلى تشبعها بأفكار المجتمعات الحديثة، وعلى رأسها ضرورة تأهيل المرأة وتعليمها، لأداء دورها في مجتمعها، وهو ما انعكس جليا على حياتها اللاحقة في المملكة السعودية.

بعد مقتل والدها في حرب البلقان، وتحديدا في عام 1931، كتبت "عفت" إلى الملك عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الثالثة والحالية، تطلب منه الإذن لأداء فريضة الحج مع عمتها "جوهران"، ورحب الملك بذلك، وكلف ابنه ونائبه على الحجاز الأمير فيصل آنذاك، باستقبالها، بحكم رابط القرابة الذي يجمعهما.

فنسبها يعود إلى "آل سعود"، وجدها الأكبر هو عبد الله بن ثنيان بن إبراهيم آل سعود، الذي كان حاكما لنجد، إبان فترة وجود تركي بن عبد الله آل سعود في مصر. 

وفي أول لقاء بينهما شعر فيصل وعفت بالانسجام مع بعضهما، قبل أن يُتوّج هذا اللقاء بالزواج بعد فترة قصيرة، لتمنح لقب "الملكة" بعد أن صعد زوجها فيصل إلى العرش عام 1964، وبذلك كانت المرأة الوحيدة التي نالت هذا اللقب في هذه المملكة الصحراوية.

لا تعليم لا مدارس

بعد زواجها عام 1932، انغمست عفت في المجتمع السعودي بشكل أكبر، وتعلمت لهجته، وكان التعليم هو أول ما لفت نظرها، حيث كانت تسأل باستمرار: "أين المدارس؟ أين التعليم؟".

لم تكن "عفت" مجرد ملكة للقصر الحاكم، بل كانت تجتمع مع النساء السعوديات، في ندوات حوارية اجتماعية وثقافية، وساعدها ذلك في فهم أحوال النساء في المجتمع السعودي، اللواتي كن محرومات من التعليم.

وفي الوقت الذي بحثت فيه "عفت" عن المدارس، كان التعليم الشعبي موجودا في "الكتاتيب" بصورته البدائية، لكن للرجال فقط، ثم وُضعت في الأربعينيات بذور التعليم الرسمي بتأسيس مديرية المعارف، لتهتم بإدارة مدارس "البنين" للذكور.

أما البنات فلم يجدن طريقهن للتعليم النظامي، فالنساء السعوديات في ذلك الوقت، كان يسري عليهن المفهوم التقليدي الذي مفاده: "مكان المرأة هو المنزل".

ورغم صعوبة المهمة، بسبب عدم انفتاح المجتمع وقتذاك، إلا أن عفت أصرت على المضي قدما في مشروعها الذي يهدف إلى تغيير واقع المرأة السعودية جذريا، من خلال السماح لها بالتعليم، وتغيير حياتهن للأفضل. فهي كانت تطمح في أن يكون لهن مستقبل ناجح.

في بداية الأمر، فاتحت عفت زوجها فيصل في الموضوع، وهي خائفة من رفضه لهذه الفكرة الجريئة، وغير المسبوقة، لكنها تفاجأت بموافقته، بل وتشجيعه لها على الاستمرار فيما بدأت به.

عقبات كثيرة

استغلت المرأة الإسطنبولية دعم زوجها وشرعت في افتتاح قسم لتعليم البنات إلى جانب قسم تعليم البنين، داخل مدرسة الطائف النموذجية، في عقد الأربعينيات من القرن العشرين، لكن بدأت العقبات تعترض طريقها الشائك.

فالكثير من الأهالي لم يرسلوا بناتهم إلى المدرسة، ولم يشجعوا هذه الخطوة. كما واجهت انتقادات كثيرة من "الجماعات المتشددة"، التي وصفت دخول الفتيات إلى المدارس بـ"بداية المنكر والفساد المؤدي لمشاكل كثيرة"، ليُغلق قسم البنات بعد 4 سنوات من افتتاحه.

كان تعليم الفتيات، من أكثر القضايا حساسية في تلك الفترة، بذريعة الحفاظ على الطابع الديني والاجتماعي لبلاد الحرمين، وبذلك كانت الفتيات هن الأكثر تأثرا بالعادات والتقاليد التي قيدت حريتها في التعبير عن الذات، وقدرتها على التعليم والعمل في كافة مناحي الحياة.

لكن فكرة أن مستقبل النساء في السعودية سيرتبط بالأمية للأبد كان يؤرق المرأة التي نهلت من الثقافة التركية، فافتتحت من جديد مدرسة لتعليم البنات داخل قصرها، وذلك فور إغلاق قسم تعليم البنات في مدرسة الطائف، وكانت عفت تدير مدرستها، وتشرف على كل شؤونها بنفسها. وقررت أن تنتظر الوقت المناسب.

"دار الحنان"

وبعد نحو عقد على تأسيس مديرية المعارف الخاصة بالأولاد، وتحديدا في عام 1955 وقفت 30 طالبة في المرحلة الابتدائية في ساحة مدرسة "دار الحنان" بجدة، والتي أسستها الملكة عفت، لينُشدن: "بدار الحنانِ يُضيُء النشيد"، ولتكون بذلك أول مدرسة للبنات في السعودية.

قدمت "دار الحنان"، تعليما متطورا في وقتها، وأدخلت الأنشطة التربوية إلى جانب البرامج التعليمية، نظرا لاستقطاب الملكة عفت لمعلمات مؤهلات بشكل عال من دول عربية. كما تُعتبر "دار الحنان" أول مدارس البنات السعودية في تقديم الأنشطة الثقافية والتربية البدنية والرياضية للبنات.

وصل العدد بالمدرسة إلى 30 طالبة في العام الأول، وقفز إلى 100 طالبة في العام الثاني، وتحولت إلى مدرسة نظامية بالكامل تحت إشراف وزارة المعارف.

لم تكتفِ المرأة القادمة من إسطنبول بهذا النجاح، فقد واصلت جهودها الحثيثة في تشجيع النساء السعوديات على التعلم، وافتتحت بعد "دار الحنان"، المزيد من المدارس والمراكز، التي سرعان ما امتلأت لاحقا بالفتيات.

الملكة التي رفعت شعار "تعليم المرأة هو سلاحها"، كانت تحث أبناءها وبناتها دائما على التمسك بالعلم، وبذل الجهد في سبيله، فافتتحت ابنتها الأميرة سارة الفيصل مدارس التربية الإسلامية بالرياض، فيما أسس نجلها الأمير محمد الفيصل مدارس المنارات الدولية.

كما أسست الأميرة هيفاء الفيصل المدرسة الفيصلية في مدينة الخبر، ثم افتتح أبناؤها مدارس الملك فيصل بالرياض. وفي عام 1999 أسسوا كلية في جدة حملت اسم والدتهم "عفت"، والتي تهتم بتعليم البنات وتثقيفهن.

كسر المعادلة

كشفت إحصائيات وزارة التعليم السعودية في 2019، بشأن أعداد طلابها وطالباتها في التعليم العام، عن تفوق عدد الطالبات عن الطلاب.

بلغ عدد الطالبات 3.043.875 طالبة، فيما بلغ عدد الطلاب 2.937.844 من بين المجموع الكلي للطلاب والطالبات المقدر بـ5.986.414.

عفت، التي اقتحمت عالم الملوك والسلطة في بلد كان يلقب في زمانها بأرض الرجال، تمكنت من كسر المعادلة، والتغلب على جميع التحديات، حتى نقلت السعودية إلى مكان آخر تماما.

وفي 15 فبراير/شباط 2000، توفيت ابنة إسطنبول، الملكة عفت، بعد عملية جراحية، عن عمر ناهز 84 عاما، تاركة وراءها مستقبلا مشرقا لأجيال السعودية رجالا ونساء، عنوانه "العلم والمعرفة".