رشيد غلام لـ"الاستقلال": أغاني المهرجانات "هجين" وليست فنا (حوار)
.jpg)
"بنت الجيران" لا حديث يعلو في مصر فوق تلك الأغنية، التي يطلق عليها المصريون "المهرجانات الشعبية"، وهو نوع غنائي انتشر بشكل واسع بين أوساط الشباب مؤخرا.
الأغنية حققت مشاهدات بالملايين أوصلتها إلى المركز الثاني عالميا في الأكثر استماعا على موقع ساوند كلاود.
الانتشار السريع لتلك الأغنية وما أثارته كلماتها من دعوات صريحة لتناول الحشيش والخمور، أشعل حملة انتقادات وهجوم كبير على صناع هذا النوع من الفنون، ووصل الأمر إلى قرار بتجميد عضوية عدد من مغني المهرجانات في نقابة الموسيقيين ومنعهم من إقامة أية حفلات قادمة.
الاستقلال طرحت ظاهرة "المهرجانات الشعبية" وأسباب انتشارها على الفنان المغربي والباحث في فلسفة الجمال وإستراتيجيات الثقافة رشيد غلام، الذي تميز على مدار سنوات بتقديم نوع خاص من الطرب الأصيل، ويعد أحد أبرز رواد الغناء العربي في السنوات الماضية.
"سلطة الواقع"
- ما تقييمك لظاهرة المهرجانات الشعبية التي انتشرت في مصر مؤخرا؟
هناك العديد من الفنون والمظاهر الفنية المختلفة نشأت في بيئات غير طبيعية مثل "الراب" و"الهيب هوب"، نشأت في بيئات مهمشة وظروف غير عادية ومع الوقت تقبلتها تلك البيئة، فأصبحت شيئا معروفا ومتعارفا عليه وله انتشار، بما يمكن أن أسميه "سلطة الواقع"، يراد لها أن تسمى فنا أو موسيقى.
من بين ذلك هذا المسمى "الهجين" الذي يطلق عليه المهرجانات، والذي لا يمكن أن أسميه فنا على الإطلاق، فهو لا يحترم أي قاعدة من قواعد الغناء العربي، لا على صعيد الكلمات أو الموسيقى أو الصوت، وأيضا طريقة الغناء هي نوع من أنواع الصراخ فلا وجود لمعايير فنية أو كفاءات صوتية أو معرفة موسيقية وحتى الموسيقى هي نوع من الصخب الشديد والذي يستخدم تقنيات إلكترونية بشكل مستمر.
- لكن رغم ذلك فهذه الظاهرة انتشرت بشكل كبير وتصدرت "التريند" على مواقع التواصل، وحققت مشاهدات بالملايين، برأيك ما أسباب إقبال الشباب على هذا النوع من الغناء؟
الانتشار لا يعني الجودة، كثرة المشاهدات لأي منتج فني لا يعني أن له قيمة فنية حقيقية، والدليل أغنية "جانجام ستايل"، الأغنية الكورية المشهورة والتي حققت 2 مليار مشاهدة في وقت قياسي، لا يمكن أن نقول أن لها قيمة غنائية، فالناس استمعت إليها لغرابتها ولأن المغني كوري، ولم يتصور أحد على الإطلاق أن هذه الأغنية ستحقق كل هذا النجاح.
لذلك أقول: إن كثرة المشاهدات وقبول القاعدة المشوهة لتذوق الفنون ليس معيارا لقيمة وجودة هذا العمل الفني، من وجهة نظري انتشار مثل هذه المهرجانات يعطينا مؤشرا على تدني المستوى الثقافي لهذه الشعوب، والذي أوصلنا لهذا التدني هو تمييع ثقافي وتغييب للوعي، صاحبه طوفان إعلامي خالي من كل رقابة فنية وتقييم مهني ومعايير قيمية لما يتم تقديمه، أضف إلى ذلك غياب أي دور رقابي تمارسه الدولة.
- الفن هو مرآة المجتمع، هل يعكس انتشار هذه المهرجانات الشعبية طبيعة وثقافة قطاع واسع من الشعب المصري الآن؟
بالتأكيد تعكسه بكل وضوح، فالمنتج الذي نستمع إليه الآن، وما اصطلح عليه على تويتر بـ "التريند" يعكس لك مستوى الشارع العربي، غياب أو تغييب النخبة وغياب أو تغييب أي فن راقي وغياب أي معيارية فنية لدى الجمهور العربي، كل هذا أوصلنا إلى فن مشوه وشعوب أكثر تشوها.
ما نشاهده الآن يعكس بالضبط العلاقة الطردية بين التردي الفني وتردي الذوق العام لدى الشعوب العربية، فالمعيار الآن هو الأكثر خلاعة وفسوقا على مستوى الكلمات والموسيقى وعلى مستوى المشاهد الغير لائقة أيضا.
نحن نحصد نتاج سنوات من اللاإستراتيجية الثقافية والتي يتحمل مسؤليته بشكل مباشر هو الاستبداد السياسي في كثير من البلدان العربية، وبالأخص في مصر، فهذه الأنظمة لم تحمل يوما أي مشروع ثقافي حقيقي للنهوض بوعي هذه الشعوب والارتقاء بالذوق العام لديها.
- لكن هذه النقطة مردود عليها، باختصار شديد النظام المصري وأي نظام آخر لا يجبر الناس على الاستماع والمشاهدة بالملايين لهذا النوع من الأغاني، فكيف تتهم الأنظمة بذلك؟
المسألة ليست في من الذي يتحكم في الذوق العام، المسألة تتعلق بالنهوض بالثقافة العامة لدى الشعوب العربية، أنا لا أتحدث عن مسؤولية نظام حكم في سنة أو سنتين، أنا أتحدث عن منظومة حكم عربي لم يكن لها أي توجه ثقافي ولم تعلن عن أي خطة أو إستراتيجية ثقافية حقيقية للارتقاء بوعي وذوق الشعوب.
لم يكن لهذه الأنظمة العربية أي منظومة قيمية تهدف أن تزرعها في الشعوب، لا يوجد اهتمام بالتعليم ولن يوجد، فهؤلاء الحكام يفكرون فقط في اتخاذ التدابير الأمنية التي تحفظ لهم كراسيهم.
فرنسا مؤخرا تبحث كيف تحمي ثقافتها الفرنسية من الغزو الأنجلوسكسوني، الكيان الصهيوني وإيران الفارسية لديهما تدابير ثقافية حقيقية للحفاظ على هويتهما وثقافتهما، لكن الدول العربية ليس لديها أي تدابير للحفاظ على الثقافة والهوية العربية، هذه التدابير لا يفعلها حاكم، وإنما تحتاج إلى إستراتيجية دولة لمواجهة هذا الأمر دون ترقيع أو تدابير وقتية أو لحظية، ما نعانيه الآن هو تخلف على كافة الأصعدة أخلاقيا وثقافيا واجتماعيا، وهذا نتاج فشل حكومات وأنظمة امتدت لعقود طويلة.
- دائما ما يتبنى الفنانون مقولة "الفن يواجه بالفن"، لكن مؤخرا نقابة الموسيقيين في مصر قررت مواجهة المهرجانات الشعبية بالمنع والفصل والتجميد..
أنا أرى الأمر بشكل مختلف، نعم يجب على نقابة الموسيقيين أن تضع قوانين أخلاقية وقيمية تحمي بها المنتج الفني في مصر وتضبط بها المسألة، لكن هذا لن يغير شيئا لأنه سيمنع الحفلات والأمور العامة، لكنه سينشئ حالة من العناد لدى أوساط مجتمعية أخرى، شاهدت فيديو لأطفال في مدرسة ابتدائية يرقصون على أغاني المهرجانات داخل المدرسة فكيف ستمنع النقابة ذلك.
كي تغير الوعي الثقافي لدى الشباب؟، يجب أن تبدأ بداية جديدة داعمة للفن الحقيقي ومؤيدة لمنظومة قيمية حقيقية ترتقي بالذوق العام لدى هذه القطاعات، فكيف يمكنك أن تترك الأطفال ضحية لأفلام محمد رمضان ثم تنبت شعبا طيب الأعراق؟، وكيف يمكن أن تكون فيفي عبده هي الأم المثالية ثم تغضب لأن المهرجانات الشعبية في انتشار كبير؟، يجب على النخب الحقيقية من تنويريين وفنانين حقيقيين أن تنهض وتعمل من أجل مواجهة هذه الظاهرة التي أفسدت ذوق المجتمع المصري.
"بنت الجيران"
- بالمناسبة هل استمعت لأغنية "بنت الجيران"؟
نعم بالتأكيد أنا متابع جيد، يعني أمر بشع لا غناء ولا صوت ولا كلمات، تقييمي في الفن يبدأ من الصوت ثم المحتوى ثم القالب الغنائي العام، هذا صوت نشاز لا تحتمله أذن تتذوق الفن والغناء، أنا لا أعيب في أشخاص، ولكن تقييمي فني هذا صوت لا يصلح للغناء أبدا.
- هل تفاجأت بالنجاح الكبير والانتشار الواسع الذي حققته الأغنية؟
لا لم أتفاجأ على الإطلاق، فأنا متابع جيد لهذا التردي في الوطن العربي، من المغرب لمصر لدول أخرى، الأمر لم يعد مفاجئا أبدا، هناك حالة عامة من التردي الفني الذي يتميز بالتفاهة الشديدة وانعدام الجودة الفنية والأخلاقية أيضا.
الواقع العربي وانحدار المستوى الثقافي لدى الشعوب العربية لا يمكن أن ينتج إلا فنا رديئا كهذا، وصناع الفن والغناء في العالم العربي عرفوا من أين تؤكل الكتف، علموا كيف يغازلون هذا الذوق المتردي وينتجون له ما يعمق من هذه الحالة السيئة التي تبتعد كل البعد عن القيم والأخلاق العربية والإسلامية.
- على مدار تاريخك الفني، قدمت نوعا مميزا من الطرب الأصيل نال إعجاب الكثيرين في الوطن العربي، هل يمكن القول أن هذا النمط قد خسر المنافسة أمام المهرجانات الشعبية؟
لا أبدا، أنا لا أنافس المهرجانات الشعبية أو غيرها، أنا وغيري نحاول أن نقدم فنا جميلا على قدر ما نستطيع، فنحن لسنا بالهالة الإنتاجية الموجودة في العالم العربي، الربح والخسارة لنا ليس بالانتشار، لكن بحقيقة القيمة وامتدادها في التاريخ، وإلا لو اعتبرنا المنتشر هو الرابح فسيكون الفن هو بضاعة سلعية يقبل عليها الناس.
- هجوم البعض على هذه الظاهرة، هل هو بدافع الارتقاء بالذوق العام أم الغيرة من النجاح؟
في مصر، لا أتصور أن التحرك بدافع الفن والثقافة، النقابة هناك والنظام يدعم مظاهر وفنون أكثر خلاعة وفسادا وانحدارا من المهرجانات الشعبية، لذلك أتصور أن هناك مسؤولا كبيرا شاهد الحفلة التي أقيمت في إستاد القاهرة فانزعج من الكلمات أو الشكل التي خرجت به تلك الأغنية ومن أداها، فأعطى تعليماته للنقابة والأذرع الإعلامية أن تهاجم هؤلاء لا أكثر ولا أقل فهم ليسوا حريصين على الفن والقيم.
- ما رسالتك للشعب المصري والعربي الذي يتابع هؤلاء ويحقق لهم النجاح الكبير والانتشار الواسع؟
خطابي موجه للنخب والمثقفين، أقول: إن عليهم مسؤولية تاريخية أن يقفوا في وجه هذا الانحدار الشديد الذي يستهدف هويتنا وشعوبنا العربية، أما الشعوب فهم ضحية لسنوات من التجهيل والفقر والهشاشة فلا يجب أن نحملهم أكثر مما يتحملون.