روسيا وأوكرانيا تتبادلان الأسرى.. ولا عزاء لمسلمي "القرم"
صفقة وُصفت بالتاريخية، لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، تُمهِّد لإنهاء سنوات من النزاع بين الجارتين، مُنذ استيلاء الأولى بالقوة على قطعة من أراضي الثانية، ودعمها متمردين في منطقتين أخريين.
وبينما هلَّل العالم للصفقة، بقِيَ مصير شبه جزيرة القرم أساس النزاع بين البلدين مجهولاً، وبقيت الأقلِّية المسلمة تتخوف من مصير روسي مرعب حيث تُواجه قمعاً واضطهاداً يتجاهله الجميع.
الصفقة التي طال انتظارها شملت 70 أسيراً بينهم المخرج الأوكراني أوليغ سينتسوف، في عملية وصفها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـِ"الخطوة الأولى" نحو إنهاء الحرب في شرق أوكرانيا.
وفي وقت سابق أعلن مصدر حكومي في كييف أنَّ كلَّ جانب سيُسلم 35 سجيناً، في أول عملية تبادل كبيرة بين البلدين مُنذ اندلاع النزاع في شرق أوكرانيا عام 2014. وهبطت بالفعل طائرتان تحملان 35 سجيناً من كل جانب في كل من موسكو وكييف، وسط تصفيق أقاربهم الذين كانوا بانتظارهم.
ومن بين المشمولين بعملية التبادل 24 بحاراً أوكرانيا والمخرج الأوكراني أوليغ سينتسوف الذي حكمت عليه روسيا بالسجن لمدة 20 عاماً في عام 2015، بتهمة التآمر لتنفيذ أعمال إرهابية في شبه جزيرة القرم، كما أفرج عن الصحافي الروسي كيريلو فيشنسكي، وشخص آخر مُثير للجدل، وُصف بأنَّه "محلُّ اهتمام" فيما يتعلق بالتحقيق في إسقاط طائرة "إم إتش 17" التابعة للخطوط الجوية الماليزية، الذي أسفر عن مقتل جميع الأشخاص الذين كانوا على متنها، والبالغ عددهم 298.
وتدهورت العلاقات بين البلدين بشكل كبير حين ضمَّت روسيا شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا، وبدأ متمردون تدعمهم روسيا تمرداً في شرق أوكرانيا، وقُتل أكثر من 13 ألف شخص في النزاع في منطقتي دونيتسك ولوهانسك.
وتوصَّل قادة أوكرانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا إلى اتفاق في 12 فبراير 2015، في روسيا البيضاء، يقضي بوقف إطلاق النار شرقي البلاد بين الحكومة الأوكرانية والانفصاليين المدعومين من روسيا، وإقامة منطقة عازلة، وسحب الأسلحة الثقيلة.
وعُرف الاتفاق بـِ"اتفاق مينسك-2" ويعتبر تطويراً لـِ"اتفاق مينسك-1"، الذي وقَّعه ممثلو الحكومة الأوكرانية والانفصاليون، برعاية روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، يوم 20 سبتمبر 2014.
مصير مجهول
وعلى الرغم من الترحيب الدولي بخطوة تبادل الأسرى وما يمكن أن تسهم فيه من وضع حدٍّ للنزاع القائم بين البلدين، إلا أنَّ القضية الأبرز في هذا النزاع قد تبدو أصعب في الحل، وكأنَّ روسيا وُضعت العالم أمام أمر واقع غير قابل للتغيير.
تلك القضية هي احتلال "شبه جزيرة القرم" المُمتدَّة من جنوبي أوكرانيا بين البحر الأسود وبحر آزوف، ويفصلها عن روسيا من الشرق مضيق كيرش، والتي أصبحت أوائل 2014 محور أخطر أزمة بين الشرق والغرب مُنذ الحرب الباردة، وذلك بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني المنتخب والموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش باحتجاجات شابها العنف في العاصمة كييف.
عند ذاك، سيطرت قوات موالية لروسيا على القرم، وبعد ذلك صوَّت سكان المنطقة - وغالبيتهم من ذوي الأصول الروسية - في استفتاء عام للانضمام الى روسيا الاتحادية، ولكنَّ أوكرانيا والدول الغربية قرَّرت أنَّ الاستفتاء كان غير شرعي.
كانت الامبراطورية الروسية سيطرت على القرم وضمتها إبَّان حُكم كاثرين العظيمة عام 1783، وظلت جزءاً من روسيا حتى عام 1954 عندما قام الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف بإهدائها إلى جمهورية أوكرانيا السوفيتية آنذاك "من أجل تعزيز الوحدة بين الروس والأوكران.
ويُشكل الروس أغلبية السكان في القرم، ولكن تسكُن في المنطقة أيضاً أقليات لا بأس بها من الأوكرانيين والتتار.
تاريخ القرم
وكانت شبه جزيرة القرم تقع تحت سيطرة اليونانيين والرومان لعِدَّة قرون، ولكن في عام 1443 أصبحت مركز دولة تتارية سيطر عليها لاحقاً العثمانيون، وأدَّى التنافس بين الدول الكبرى في أواسط القرن التاسع عشر إلى اندلاع حرب القرم التي حاربت فيها بريطانيا وفرنسا - اللتان كانتا متخوفتين من الطموحات الروسية في بلاد البلقان للاستحواذ على إرث الدولة العثمانية الآفلة.
مُنحت شبه جزيرة القرم حكماً ذاتياً باعتبارها جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي عقِب ثورة أكتوبر البلشفية عام 1917، واحتلها النازيون في أوائل عام 1940 قبل أن يطردوا منها.
اتهم الزعيم السوفيتي جوزف ستالين تتار القرم المسلمين بالتواطُؤ مع المحتل النازي، ولذا قام بتسفيرهم الى آسيا الوسطى وسيبيريا في عام 1944 في عملية كلَّفت أرواح الكثيرين منهم.
ولم يسمح لهؤلاء التتار بالعودة الى موطنهم الأصلي في القرم إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وعندما عادوا كان عددهم يناهز الربع مليون في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
مسلمون منسيّون
في حين استقطبت قضيتا مسلمو الأويغور الصينيون والروهينغا في ميانمار، كانت الأقلية المسلمة تتار القرم تواجه التطهير العرقي، ولم تحظ محنتها بالاهتمام الذي تستحقه، ففي السنوات الخمس التي تلت ضمَّ روسيا للقرم، وعزل الموانئ المربحة بعيداً عن أوكرانيا، تحطَّمت حياة 250 ألفاً من مسلمي التتار في القرم، حُرم هؤلاء من العمل، ومن لغتهم، وتمَّ حظر صحفهم وطريقة حياتهم في محاولة لإبعادهم عن شبه الجزيرة.
عقب الإعلان عن صفقة تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، أكَّد "رفعت تشوباروف" رئيس مجلس شعب تتار القرم أحد منابر تمثيل المسلمين هناك، أنَّ إتمام تلك الصفقة بدون المواطنين من تتار القرم سيساعد روسيا على تثبيت احتلالها لشبه الجزيرة.
وأوضح أنَّ بيانات الناشطين الأوكرانيين في مجال حقوق الإنسان تُشير إلى أن 130 من مواطني أوكرانيا -معظمهم من تتار القرم- محتجزون في روسيا والقرم المحتل بتهم ملفقة، مشيراً إلى أن 7 من مواطني تتار القرم أصدرت بحقهم السلطات الروسية أحكاماً بالسجن بشكل غير قانوني لمدة تصل إلى 17 عاماً.
تصريحات تشوباروف المتزامنة مع الأزمة الحالية، تسلِّط الأضواء على جانب مظلم من حياة الأقليات المسلمة المضطهدة حول العالم، ووفقاً لرئيس "مركز موارد تتار القرم" إسكندير بارييف، فقد "تمَّ بحسب أرقام رسمية تسجيل أكثر من 35 ألف نازح عن القرم في أوكرانيا، والأعداد الحقيقية تزيد على هذا العدد بنحو ثلاثة أضعاف، لأنَّ كثيرين لم يُسجِّلوا أنفسهم كنازحين".
"غايانا يوكسيل" مستشارة وزير الشباب والرياضة، وعضو مجلس شعب تتار القرم، قالت: "خلال خمس سنوات، قتل 17 شخصاً من تتار القرم، و19 آخرين ما يزالوا في عِداد المفقودين، بالإضافة إلى اعتقال ومحاكمة مئة شخص، معظمهم نشطاء ورموز ثقافية".
ولفتت أيضاً إلى أنَّه "تمَّ توثيق ألف عملية مداهمة وتفتيش استهدفت بيوتاً ومساجد قرمية تترية، يصاحبها اتهام وشتم عنصري وتكسير، بهدف بثِّ الذعر والخوف في النفوس".
الاحتلال الروسي يصاحبه تحويل شبه الجزيرة إلى ثُكنة عسكرية، حيث نُقل إليها 32.5 ألف جندي، ورُمِّمَت المواقع العسكرية التي تركها الاتحاد السوفييتي، ونقْل منظومة صواريخ "إس 400" و"إسكندر"، بالإضافة إلى 88 نظاماً مدفعياً، و372 آلية مدرعة و113 طائرة مقاتلة و62 مروحية وست سفن وست غواصات.
تاريخ القمع
تاريخ القمع الروسي لمسلمي القرم بدأ أوائل سبعينات القرن السابع عشر، عندما أعادت "كاثرين العظيمة" بعد الاستيلاء على المنطقة إعادة التنظيم السياسي، التي شملت استبدال الحاكم التتاري بحاكم روسي، وتوزيع الأراضي على المسؤولين الروس والنبلاء، وقت أن شكل المسلمون 85% من السكان.
وشجَّعت كاثرين تنقل الروس من الداخل إلى شبه الجزيرة، وكان الضمُّ الروسي للقرم حينها سبب الموْجَةِ الأولى من هجرة التتار إلى أماكن أخرى في الإمبراطورية العثمانية.
وعندما خسر الروس حرب القرم عام 1856 أمام العثمانيين المواجهين لتوسيع الإمبراطروية الروسية خارج القرم، سعت إلى الانتقام من السكان التتار، الذين اتهمهم النظام القيصري بتحريض الأتراك والتعاون معهم، وفرضوا استخدام اللغة الروسية على السكان، واستبدلوا أسماء التتار، وأسماء الأماكن بأسماء روسية.
وكما يُشير آلان دبليو فيشر، في كتابه "تتار القرم" فإنَّه خلال هذه الفترة، انخفض عدد سكان شبه جزيرة القرم من نحو 275 ألفاً في 1850، إلى 194 ألفاً في 1860.
في عشرينيات القرن العشرين بدأ الزعيم الذي لم يصبح رئيساً حينها "جوزيف ستالين" (ديكتاتور حكم الاتحاد السوفيتي) في القضاء على المثقفين التتار، الذين كانوا منشغلين بإحياء لغة التتار وثقافتهم والدعوة إلى تقرير المصير، وفي عام 1927، أطلق عليهم ستالين اسم "القوميين البرجوازيين"، وجمع نحو 40 ألفاً من التتار، وأرسلهم إلى معسكرات العمل القسري في سيبيريا.
وفي 18 مايو/أيار 1944، أمر ستالين بعمليات تطهير وحشي لنحو ربع مليون تتاري، بترحيلهم إلى آسيا الوسطى أوزبكستان، حيث مات نصفهم في الطريق بسبب المرض والجوع، حسب بعض التقديرات. وتمكَّن آلاف عِدَّة من التتار من الفرار إلى تركيا وأوروبا، والبعض انتهى بهم المطاف في الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأ التتار بالعودة إلى شبه جزيرة القرم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وقد وجد الآلاف منهم أنَّ وطنهم قد أُُعيد توطينه بالكامل من قبل الروس، ومع ذلك، التزموا بإعادة بناء وإحياء تراث القرم التتاري، وأنشأوا هيئة سياسية خاصة بهم، هي "مجلس تتار القرم" ولعبت هذه الهيئة دور سفارة التتار، كجِهة عملت على استعادة حقوق التتار وتقرير مصيرهم.
وفي فبراير 2014، عارض التتار الاجتياح الروسي لشبه جزيرة القرم، وتمَّ القبض على العديد من نشطاء التتار والصحفيين، واختفى العديد منهم؛ وتمَّ اختطاف الناشط السياسي الشاب، رشاد أميتوف، وعُثر على جثته بعد أسبوعين.
لاحقاً، تمَّ إغلاق صحف التتار ومحطات الإذاعة والتلفزيون، وحظر تعليم لغة القرم، وفي أبريل 2014، مُنع زعيم القرم التتار ورئيس المجلس، مصطفى زميليف، من الدخول إلى شبه الجزيرة، وفي 2016، حظرت روسيا "المجلس" وصنفته تنظيماً متطرفاً، واعتقل العديد من التتار بتهمة التعاطف مع الإرهابيين، أو الانتماء لجماعات متطرفة.
وأشار تقرير صادر في فبراير الماضي عن المفوض السامي لحقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، إلى أنَّ حالة حقوق الإنسان في القرم ما تزال تتدهور، كنتيجة مباشرة لتطبيق سلطات الاتحاد الروسي قوانينها ضد سكان القرم في انتهاك واضح لاتفاقية جنيف الرابعة، وغيرها من انتهاكات القانون الإنساني الدولي.
اليوم، هناك 250 ألفاً من التتار في شبه جزيرة القرم؛ لكن بينما كان التتار في القرن الثامن عشر 80% من السكان، فإنهم يُشكلون اليوم نحو 12%.
في مارس الماضي شنَّت روسيا حملة اعتقالات واسعة ودهمت منازل العشرات من تتار القرم، الأمر الذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنَّه "استمرار للاضطهاد بلا هوادة" لمجتمع القرم التتاري، لمُدَّة خمس سنوات.
وفي العام الماضي، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو موسكو إلى الانسحاب من الإقليم، وفرضت أمريكا والاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب احتلال القرم، لكن كل هذه التدابير لم تُغير الواقع.
علاوة على ذلك، لم يتحرك أحد بشكل جاد لوقف التطهير الثقافي والعرقي البطيء لتتار القرم، ولا يزال الغرب ومؤسساته التي أُنشئت للدفاع عن حقوق الإنسان تقف موقف المتفرج.