لماذا لا يجب أن يحكم العسكر؟
لم تستطع أنظمة الحكم العسكري إلى حد الساعة أن تقدم للعالم نموذجًا تنمويًا ناجحًا يقنع بأنها نظام قوي يمكن أن يحتذى به في بعض الدول الفقيرة أو الدول النامية التي لا تزال في فترة تجريب وبحث عن أنظمة تحقق لها الرخاء الاقتصادي والتوازن الاجتماعي. فعلى مر المراحل التاريخية أظهرت هذه الأنظمة خللًا كبيرًا في طريقة الحكم والتحكم في موارد البلاد الطبيعية والبشرية كما فشلت فشلًا ذريعًا في سن نظام اقتصادي اجتماعي يواكب التطورات التي يشهدها العالم.
من آسيا إلى أمريكا اللاتينية مرورًا بإفريقيا وأوروبا الشرقية توالت أنظمة عسكرية في العديد من دول العالم، وصل العسكر إلى سدة الحكم بواسطة انقلابات على الأنظمة السابقة سواءً جمهوريات ديمقراطية أو أنظمة ملكية. انقلابات قادتها المؤسسة العسكرية معززة بدعم خارجي أحيانًا وذلك نظراً للقوة والمعدات التي تتوفر عليها هذه المؤسسة، التي تمكنها من فرض سيطرتها والتحكم بالقطاعات الحيوية في البلاد ناهيك عن الاستيلاء على المنابر الإعلامية كالإذاعة والتلفزيون من أجل الإجهاز على كل الإعلام المؤثر في آراء المواطنين أو الأصوات المعارضة التي تحذر من خطورة العسكر ولو أظهروا العكس ووعدوا بغد مشرق للوطن عكس ما قدمه لهم النظام السابق.
في 23 يوليو/حزيران 1952 قاد ضباط جيش مصريون ثورة على الملك فاروق الأول الذي نفي رفقة عائلته إلى إيطاليا منهيًا بذلك حكم عائلة محمد علي المدعومة من طرف بريطانيا. ألغي دستور 1923 في ديسمبر/كانون الأول 1952، ثم أقيمت الجمهورية المصرية على أنقاض الملكية وأُعلن اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية في 18 يونيو/حزيران 1953. تلت الثورة بعض الوعود والإنجازات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية أعادت الأمل إلى الطبقة الكادحة التي كانت ترزح تحت عتبة الفقر والاستعمار.
كانت الثورة إذن خلاص الطبقة الكادحة التي كانت تشكل نسبة كبيرة جدًا من المجتمع المصري من ظروف اقتصادية واجتماعية متردية زادها الاستعمار تعقيدًا؛ كانت أول مرة يحكم فيها المصريون بلدهم منذ قرون بعد سلسلة طويلة من الغزوات التي قادها الفرس واليونان والأتراك والفرنسيون... لكن النظام العسكري بعد ذلك لم يسلم من انتقادات حادة تبين في ما بعد أنها صحيحة؛ نظرًا لأن طبقة كبيرة من الشعب لا تزال تعاني من مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة كما أن تأميم وسائل الإنتاج والتوجه بالبلاد إلى الاشتراكية على غرار النظام السوڤياتي آنذاك، أدى إلى إخفاقات اقتصادية جسيمة.
تحولت مصر إذن من نظام ملكي إلى جمهورية يقودها جمال عبدالناصر الذي كان يعتمد على مساعدات النظام السوفياتي مشيدًا بذلك اقتصادًا تحتكره الدولة فقط.
أشار المؤرخ الأمريكي جويل غوردون في كتابه "حركة ناصر المباركة": أن الضباط الأحرار افتقدوا البوصلة منذ البداية، حيث لم تكن لديهم رؤية واضحة عن النموذج التنموي الذي يجب أن يأخد مكان النظام الاقتصادي الفاشل، الذي سبقه ناهيك عن انتهاكات حقوق الإنسان التي عرفتها تلك الحقبة من تعذيب المعارضين من الشيوعيين والإخوان المسلمين على حد سواء وحالات الاختفاء القسري إضافة إلى حالات النفي خارج البلاد.
تبدد حلم الثورة المجيدة نهائيًا بعد هزيمة 1967 وفشل نموذج الوحدة العربية الذي كان يرمي إلى اتحاد القوى العربية التي عانت من ويلات الاستعمار تحت راية واحدة.
كرر التاريخ نفسه في مناسبات أخرى غير بعيد عن مصر؛ في المغرب شكلت فترة السبعينات مرحلة جد حرجة في تاريخ الملكية حيث أحبطت محاولتا انقلاب سنة 1971 ثم سنة 1972 من طرف الجيش الذي لم يكن ولاءه موضع شك لحاكم البلاد الحسن الثاني يومًا ما حسب قول المؤرخ الفرنسي جيل بيرو.
في الجهة الأخرى من العالم وتحديدًا في أمريكا اللاتينية التي شكلت تربتها مرتعًا خصبًا للانقلابات العسكرية الأمريكية الناعمة التي أدارتها واشنطن عن بعد في دول أمريكا الجنوبية لأسباب جيوسياسية محضة، اشتعلت نار الكثير من الانقلابات العسكرية على أنظمة شرعية في البيرو والتشيلي والأوروغواي والبرازيل والأرجنتين وفينزويلا وواتيمالا وغيرها.
اعترف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مارس/آذار 2016 خلال زيارة رسمية للأرجنتين أن بلاده تورطت في دعم الانقلاب الذي قاده الجيش سنة 1976 وأن الولايات المتحدة الأمريكية تعلمت من أخطاء الماضي ولن تدبر مجددًا أي انقلابات تمس بوحدة وإرادة الشعوب الحرة.
أسابيع بعدها تمت تنحية الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف عن منصبها بسبب انقلاب ناعم قادته أصابع خفية. تجدر الإشارة إلى أن ديلما روسيف كانت تتميز بمواقف معارضة للسياسة الأمريكية كما أنها كانت تحاول نهج نظام اشتراكي جديد إضافة إلى انضمامها إلى مجموعة BRICS التي تضم كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا التي غرضها إنهاء الهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
سواءً أكانت دوافع الانقلابات العسكرية داخلية محضة أو موجهة من طرف أصابع خفية من أجل مطامع اقتصادية أو جيوسياسية فلا يمكن اعتبار الأنظمة العسكرية أنظمة ناجحة، ولا يمكن أن تكون كذلك لأنها تفتقد الرؤية والحكمة ولأن معظم الانقلابات التي قادها الجيش كانت مدبرة من طرف جهات خارجية لتحقيق أغراض قصيرة أو متوسطة المدى، أهداف لحظية ليس الغرض تحقيق الأمن الاقتصادي للبلد أو العدالة الاجتماعية للمواطنين.
لا يجب أن يحكم العسكر لأن مهمته الأساسية هي حماية الوطن وليس التحكم فيه ولأن كل الرؤساء الذين أفرزهم انقلاب عسكري على الشرعية يتسمون بشخصيات مستبدة لديها نزعة لتمجيد نفسها وتخليد ذكراها، تقتات على الحاشية والأتباع الذين يمجدونها، ليس لديهم أي رؤية ثاقبة للمستقبل كما أنهم يبثون الرعب ويستعملون العنف والتعذيب والسجن والاختفاء القسري حتى تُقزّم وتخرس أصوات المعارضين.
سمات يتقاسمها الديكتاتوريون في كل بقاع العالم على مر السنين سواءً موبوتو في زائير، موغابي في زيمبابوي، بينوتشي في التشيلي أو تشاوسيسكو في رومانيا وغيرهم ممن مات منفيًا أو مثقوبًا بالرصاص أو محروقًا أو من مازالوا على قيد الحياة واستبد بهم جنون العظمة كما استبد بسابقيهم فاستبدوا بأوطانهم ورموا بها في دوامة التخلف لا يهمهم شيء سوى تمجيد أسمائهم وتشييد قصورهم الرئاسية التي ستكون حياتها أطول من حياتهم.