أشكال نسائية.. أقنعة رجالية

عبدالله العودة | منذ ٦ أعوام

في ستينيات القرن الماضي، كان هناك مفكر مناهض للاستعمار في القارة الأفريقية اسمه فرانز فانون، ولأنه كان من أصول إفريقية وعاش في دول تابعة لأوروبا، قرر في لحظة وعي عارم أن يرحل لأفريقيا، وأن يصطف إلى جوار البلدان الأفريقية التي عانت من الاستعمار، بل وحتى أن يقاتل في صفوفهم ضد الاستعمار، كما فعل حين كان في صفوف الجزائريين أثناء ثورة الاستقلال.

في تلك الأثناء، كان يقدّم فانون مشروعاً توعوياً عميقاً يحلل فيه الأدوات الاستعمارية وأثرها النفسي على المناطق والمجموعات التي يقع عليها هذا الاستعمار، ولاحظ في فترة مبكرة ظاهرة عجيبة: لاحظ أن المعايير والقيم والأشياء التي يفرضها رجل الاستعمار الأبيض، تقوم باستعمار الوجدان وليس أرض الآخرين فحسب.

فاستعمار الوجدان أخطر وأهم بكثير، وحينما يقيّم الإنسان في أفريقيا الأشياء من حوله؛ وفقاً لمعايير الأبيض المتغلّب، فإنه حتى وإن ظن أنه يرفض الاستعمار ويدينه، تجده يعمل وفقاً لتلك القواعد والقيم التي سنّها المستعمِر وقدّمها له بوصفها "القيم الأعلى والأفضل".

(1)

وحين يريد هذا الإنسان الخاضع للاستعمار تحدّيه وتجاوزه، فقد يفعل بطريقة تناسب معايير المتغلِّب المستعمِر، وبالتالي يتقمّص شخصيات الإنسان الأبيض "المتفوّق" من حيث أراد منافسته ومناهضته.

وفي رصد هذه الظاهرة كتب فرانز فانون كتابه المهم "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" Black Skins, White Masks.

وحينما كان مالكوم إكس (داعية إسلامي مدافع عن حقوق الإنسان) يخطب في نيويورك، وكان الناس يتحدثون عن نضال السود في أمريكا، كان له تعليق طريف جداً، يقول فيه: إن "الرجال البيض في أمريكا لن يقبلوا الأسود كما هو، بل سيحاولون تبييضه وأن يطلوا أخلاقه ومعاييره بمعايير البيض؛ لكي يكون مقبولاً لديهم".

وكان مالكوم إكس يردد قائلاً: "اللون الأسود قوي ومسيطر.. وأنا مثل القهوة السوداء.. لا تحتاج أن تضيف إليها الحليب لكي تكون مقبولة ومستساغة"؛ لذلك كان يفضلها خالية من أي إضافات بيضاء.

وحينما رحل الاستعمار الأحمر الغريب وجاء الاستبداد الأسمر القريب، الذي يشبهه في كل شيء، انتقلت كوارث الاستعمار للاستبداد المحلّي، وأصبح هذا الأسمر المهزوز يمارس ذات السلوكيات حينما يسرق الأرض والحقل والمصنع ويبيعها لكل أحد، ويستثني منها الناس، وحينما يستعبد القريب، ويستخذي ويركع للغريب، كما وصف ذلك الأديب البردوني:

حُكّامنا إن تصدّوا للحمى اقتحموا.. وإن تصدّى له المستعمر انسحبوا

هم يفرشون لجيش الغزو أعينهم.. ويدّعون وُثـُـوباً قبل أن يثبوا

الحاكمون وواشنطن حكومتهم.. اللامعون وماشعّوا وما غربوا

الباذلون نبوغ الشعب ترضية.. للمعتدين وما تجديهم القُرَبُ

فحينما جاء هذا المستبد المتغلّب تكررت ذات المشاكل، عندما بدأت تبرز مطالب الاستقلال الثاني: الاستقلال عن الاستبداد هذه المرّة.

عندما جاء الاستبداد جلب معه مشاكل سيده (الاستعمار) ومواصفاته وخبرته في المعارك ضد الشعوب التي تطالب بالحقوق والحرية، ثم أصبح هذا الاستبداد مع الوقت يحاول يائساً أن يطوّر آلياته في التعامل مع الشعوب محاولاً النفاذ إليها، ومتقمصاً بعض شخصياتها أحياناً.

(2)

في بلد مثل السعودية وفي ظرف هذا الاستبداد الكئيب، تبرز مطالبات نسوية مهمة، تسعى للحقوق وتطالب بالعدالة وتناضل على المستوى الشعبي، فهي جزءٌ من الحراك الوطني الصلب المنادي بالعدالة تجاه المرأة وقضاياها.

وفي هذه الأثناء، يقرر الاستبداد فيها التعذيب الوحشي لقيادات نسائية واعتقالهن وترهيب هذا الحراك. يقدّم في المقابل أشكالاً نسائية أخرى في مناصب في الدولة، لكي يقول للغرب بأنه يرعى المرأة.

لكن الاستبداد يختار هذه الشخصيات النسائية الحكومية بعناية؛ لأنها تجمع بين صفتين: الأولى أنها متعلمة ومهتمة ضمن المعايير العامة، ولكن الصفة الثانية هي الأهم والأكثر حساسية: أن هذه الأشكال النسائية الحكومية تضع الأقنعة الرجالية، وتقدّم الولاء التام للاستبداد ومعاييره وقيمه ومشاريعه وكوارثه محلياً ودولياً.

ولذلك بكل جدارة، هذه الشخصيات النسائية الحكومية، التي ترعاها الأجهزة الرجالية ليست إلا أقنعة رجالية للوجوه النسائية، يستخدمها الرجل المستبد لشرعنة استبداده والترويج له وتلميع صورته، وفي ذات الوقت تقديم منجزات شكلية محدودة.

وفي المقابل، الشخصيات النضالية النسائية الحقيقية تقبع في السجون والمهجَر، وتعاني من العذاب والأذى والتجهيل الرسمي المتعمد وحملات التشويه الممنهجة. إضافة إلى ما أثبتته التقارير من تحرّش ممنهج، وقصص تثير المقت والاشمئزاز من هذه السلوكيات الاستبدادية المتعمدة.

وإذا كنّا نعرف من أيام فرانز فانون بأن هناك أشكالاً سوداء بأقنعة بيضاء، فإن هناك ما يجب تسميتها بـ"أشكال نسائية بأقنعة رجالية" Women Skins, Men Masks.  أما اللواتي بلاقناع فهنّ غالباً في المعتقل أو المهجَر حيث يعذّبهن الرجل المستبد ويُرهبهن، أو في الداخل يخضعن للرصد والمراقبة والاستفزاز والتجاهل.