قطاع إستراتيجي.. كيف نجحت تركيا في تولى صيانة المعدات العسكرية الأوروبية؟

"تركيا تمتلك قدرات تفتقر إليها بعض الدول الأوروبية"
الحرب في أوكرانيا والمستمرة منذ 24 فبراير/ شباط 2022 كشفت مدى ضعف صناعة الأسلحة الأوروبية في مجال الصيانة والإصلاح.
في المقابل، برزت تركيا كلاعب قوي في هذا المجال الإستراتيجي الحيوي، ولهذا اقترحت شركة تسليح تركية مملوكة للدولة صفقة على أوروبا، تقوم بموجبها بصيانة المعدات العسكرية الأوروبية.
وفي هذا السياق، تحدثت صحيفة "دي فيلت" الألمانية عما وصفته "بالتميز التركي في مجال الصيانة والإصلاح"، كاشفة عن الأسباب التي جعلت أنقرة تتفوق على الدول الأوروبية في هذا الملف.
عمليات متعددة
وأشادت الصحيفة بـ"الأهداف الطموحة التي وضعها مدير شركة (أسفات) الحكومية، مصطفى إلباش إذ يؤكد على أن الهدف هو (الوصول إلى قلب أوروبا)".
وقدّرت بأنه "إذا نجحت خطته فسيجرى في المستقبل صيانة وإصلاح الطائرات المقاتلة وطائرات النقل الألمانية والبريطانية في المنشآت التركية".
وتأسست شركة "أسفات"، كما تقول الصحيفة، "بهدف الاستفادة من طاقات 27 مصنعا للأسلحة و10 أحواض بناء سفن عسكرية وتسويقها دوليا".
"وهي تخدم بالدرجة الأولى الجيش التركي، لكنها تتيح هامشا لمشاريع التصدير والتعاون الدولي، وتسعى أنقرة إلى استغلال هذا الإمكان التجاري، وترى أن توقيت ذلك مناسب للغاية"، بحسب "دي فيلت".
وتابعت: "بينما تركز الدول الأوروبية في مجال الدفاع على شراء أسلحة جديدة، يسلط إلباش الضوء على جانب آخر وهو: القدرة على صيانة العتاد العسكري وتجديده داخليا".
"وهو ما تعده أنقرة عاملا إستراتيجيا لا غنى عنه، في حين أُهمل في أوروبا لسنوات طويلة"، وفقا للصحيفة.
واستطردت: "يُعرف هذا المجال تقنيا بمصطلح MRO، أي الصيانة والإصلاح والتجديد، وقد بيّنت حرب أوكرانيا بوضوح أهمية هذا الجانب".
وأكملت: "ففي الحروب الساخنة يتعرض العتاد للاستهلاك بوتيرة أعلى بكثير من أوقات السلم، وحتى أحدث الطائرات المقاتلة لا فائدة منها إذا بقيت على الأرض، وهنا تكمن نقطة ضعف أوروبا، أو -من منظور تركي- الفرصة لسد هذا الفراغ".
وترى أن "الظروف الخارجية دفعت أنقرة إلى تطوير هذه القدرات، فعندما قررت تركيا، الدولة العضو في حلف الناتو، عام 2019 شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، ردّت الولايات المتحدة بفرض عقوبات، مما أدى إلى مشكلات في توريد الأسلحة".
وفي الوقت ذاته، "كانت القوات المسلحة التركية منخرطة في عمليات متعددة، سواء ضد مليشيا بي كا كا، أو في سوريا، ما استلزم توفير قطع غيار وضمان جاهزية الأنظمة، الأمر الذي أجبر أنقرة على تطوير حلولها الخاصة".
سمعة عالمية
نتيجة لذلك، قالت الصحيفة: "وسّعت تركيا كثيرا صناعتها العسكرية، وركزت على الإنتاج المحلي، واليوم تحظى منتجاتها بسمعة عالمية قوية، كما هو الحال مع الطائرات المسيرة من طراز بيرقدار".
وأضافت: "كما طورت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية، بالتعاون مع شركة (بي إيه إي سيستمز) البريطانية، طائرة مقاتلة شبحية حديثة".
وقد "أجرى هذا النموذج المسمى (Kaan) أول رحلة تجريبية له عام 2024، وإن كان لا يزال بحاجة لبعض الوقت قبل أن يصبح جاهزا للخدمة".
مع ذلك، ذكرت الصحيفة أن "أنقرة وقعت في يونيو/ حزيران 2025 اتفاقية مع إندونيسيا لتوريد 48 طائرة من هذا الطراز، وهي أول عقود تصدير لهذه الطائرة، على أن تسلم خلال عشر سنوات".
وتعتقد أن "هذه الخطوة ذات دلالة رمزية كبيرة؛ إذ ستجعل تركيا واحدة من قلائل دول العالم القادرة على تصدير مقاتلات من الجيل الخامس".
بالتوازي مع ذلك، أشارت "دي فيلت" إلى أن تركيا "قطعت شوطا كبيرا بالفعل في مجال الصيانة والإصلاح".
واستدلت على ذلك بالصور الواردة من منشأة صيانة الطائرات الحربية بمدينة أسكي شهير شمال غربي البلاد؛ حيث تظهر الصورة ثلاثة رجال يعملون فوق جناح طائرة F-16 أميركية الصنع، أحدهم يفحص وصلة برغي، وآخر ينحني ليفحص داخل الطائرة".
وأضافت: "تمت إزالة جزء من الهيكل الخارجي للطائرة، وكُشف عن بعض الكابلات وخطوط الأنظمة الهيدروليكية، وتحت الجناح يعمل تقنيان آخران أمام أبواب صيانة مفتوحة باستخدام جهاز قياس".
وأوضحت أن هذه الإجراءات "تعد جزءا من أعمال الصيانة الدورية المطلوبة لكل 200 ساعة طيران، وهي شبيهة بفحص السيارة في مراكز الفحص الفني، لكن صيانة المقاتلات الحربية بالطبع أكثر تعقيدا بكثير".
واستطردت: "حتى الآن، لم يُظهر الطراز الذي تم فحصه أي أعطال، لكن حتى لو وُجدت حاجة إلى إصلاح، يمكن معالجة الكثير منها محليا".
خطأ مكلف
في المقابل، "ورغم أن ألمانيا تملك صناعة تسليح قوية، إلا أنها ركزت لسنوات على التصدير وأهملت قدراتها الذاتية في مجال الصيانة والإصلاح"، وفق الصحيفة.
وعزت ذلك الإهمال إلى "الاعتقاد الذي كان سائدا في الماضي بأن الولايات المتحدة ستسد أي نقص في هذا المجال، فهي رائدة فيه".
واستدركت: "لكن مع تصاعد التيارات الانعزالية في واشنطن، خاصة منذ وصول دونالد ترامب إلى الحكم، بدأ هذا الاعتماد يفقد استقراره، واليوم أصبحت الحاجة إلى قدر من الاستقلالية الأوروبية مسألة بقاء".
وانتقدت "دي فيلت" السياسة الأوروبية العسكرية قائلة: "بدلا من الاستثمار في الحفاظ على الأنظمة القائمة، يركّز العديد من الدول الأوروبية على شراء عتاد جديد، وهو خطأ مكلف".
واستشهدت بتقرير لشركة الاستشارات "ماكينزي"، نُشر في فبراير/ شباط 2025، خلص إلى أنه "لو زادت جاهزية العتاد بنسبة عشرة بالمئة فقط، فكأنك أضفت إلى الأسطول 40 طائرة إضافية".
لكن على أرض الواقع تبدو الصورة قاتمة؛ إذ ذكرت الصحيفة أن "التطبيق العملي لا يزال يواجه مشكلات".
وأوضحت أن "كثيرا ما يكون هناك نقص في قطع الغيار نتيجة اضطرابات سلاسل الإمداد أو سوء التخطيط، إلى جانب نقص في الكوادر المؤهلة".
"على الجانب الآخر، فإن الوضع مختلف في تركيا"، قالت الصحيفة.
وتابعت: "يعمل في قطاع الصناعات الدفاعية التركية أكثر من 100 ألف متخصص"، وفقا لإلباش رئيس شركة أسفات.
وأضاف: "معظمهم مهندسون، ومتوسط أعمارهم 34 عاما، كما أن التخصصات الهندسية تحظى بشعبية واسعة في الجامعات التركية، وتحظى شركات الصناعات الدفاعية أيضا بسمعة طيبة في تركيا".
ضعف الثقة
أما بخصوص الصفقة المحتملة بين أنقرة وأوروبا، قالت الصحيفة: "حتى الآن، تنشط شركة أسفات بشكل رئيس في مناطق أخرى من العالم، أما في أوروبا فلا تزال المشاريع تقتصر على تعاون مع رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا".
ونقلت عن إلباش رغبته في أن "يقدم خدمات صيانة للطائرة الأوروبية يوروفايتر لصالح الدول الأوروبية، بشرط أن تحصل تركيا على هذه المقاتلة"، وبحسب الصحيفة، فإن "المحادثات في هذا الصدد جارية".
وتكمن المعضلة في حصول أنقرة على هذه الطائرة في أنه يتم تطويرها من خلال تحالف بين أربع دول (ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا).
"وبالتالي، يتطلب تصديرها موافقة جميع هذه الدول، وقد ظلت الحكومة الألمانية لفترة طويلة تمانع هذا القرار، لأسباب تتعلق بالتوترات مع اليونان"، بحسب الصحيفة.
مع ذلك، قدرت "دي فيلت" أن "الظروف أصبحت مواتية اليوم؛ إذ تعيد أوروبا حاليا ترتيب بنيتها الأمنية بسبب الغموض المحيط بالدور الأميركي المستقبلي".
واستطردت: “هنا تأتي تركيا، بوصفها ثاني أكبر شريك في حلف الناتو؛ حيث تمتلك قدرات تفتقر إليها بعض الدول الأوروبية، بما في ذلك خبرات قتالية فعلية”.
رغم كل ذلك، تعتقد الصحيفة أن "تبديد الشكوك الأوروبية ليس بالأمر السهل".
وأردفت: "يعود السبب في ضعف التعاون العميق بين أوروبا وتركيا في قطاع التسلح حتى الآن، إلى نقص الثقة".
ولفتت إلى أن "المشروع الأوروبي الكبير الوحيد الذي شاركت فيه أنقرة منذ نهاية الحرب الباردة كان طائرة النقل A400M، حيث تولّت تركيا مسؤوليات صناعية وقدمت مكونات للطائرة".
"أما فيما يتعلق بمقاتلة F-35 الأميركية، فكان من المخطط أن تُجمع محركاتها في منشآت مدينة أسكي شهير، لصالح هولندا وبريطانيا، وتم بالفعل تجهيز منشآت لذلك، غير أن شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسية S-400 أدى إلى استبعادها من هذا البرنامج".
من جانبه، يحاول رئيس أسفات، إلباش، بناء جسور الثقة بشكل واضح، حيث أكد: "ليس لدينا أي مشاريع مع روسيا".
وأضاف للصحيفة: "نحن دولة أوروبية، وعضو في حلف الناتو، ونحن نقف في نفس الصف".