منطقة حساسة.. هكذا تعصف المليشيات بنفوذ الجيش شرق السودان
"منطقة تنذر باندلاع نزاعات تحكمها المصالح المتشابكة والمتعارضة لعدد من الدول الإقليمية"
بعد اندلاع الحرب الأهلية السودانية في 15 أبريل/ نيسان 2023، اتخذ الجيش السوداني من بورتسودان، أكبر مدن الشرق عاصمة بديلة له عن الخرطوم، التي تتجاذبها المعارك ضد قوات "الدعم السريع" المتمردة بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي".
ومنذ ذلك الوقت أصبح شرق السودان مقرا لقائد الجيش ورئيس "مجلس السيادة الانتقالي" الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
لكن حاليا بدأ الشرق يدخل على مسار الفوضى بعد أن انتشرت فيه عديد من المليشيات، ما دفع قادة قبيلة البجا العريقة، والمكون الرئيس لسكان المنطقة إلى المطالبة بطرد الحركات المسلحة الحليفة للجيش من الشرق.
بيان تحذيري
وفي 15 نوفمبر/ تشرين الأول 2024، أعلنت مجموعة مسلحة تطلق على نفسها اسم "تيار الشباب البجاوي الحر"، في بيان، أن وجود الحركات المسلحة القادمة من خارج الإقليم يمثل خطرا داهما، ليس على الأمن فقط، بل على نسيجنا الاجتماعي".
وتتمركز في شرق السودان حاليا 3 مليشيات مسلحة دارفورية، إلى جانب 8 حركات مسلحة من إثنيات مختلفة، 4 منها تدربت تحت رعاية الجيش الإريتري وداخل معسكراته ومن أشهرها: "مؤتمر البجا المسلح و"قوات مؤتمر البجا - الكفاح المسلح".
وبعد إعلان البيان التحذيري من "تيار الشباب البجاوي" ردت عليه المؤسسة العسكرية في بورتسودان بفرض قيود شديدة على تحركات عناصر الحركات المسلحة داخل المدينة.
ووجهت لـ"ارتكازات الجيش" أوامر بعدم السماح بمرور أي مركبة من المركبات التابعة للحركات المسلحة، إلا بعد إبراز إذن مسبق من السلطات الأمنية في المدينة.
الأورطة الشرقية وإريتريا
ويأتي سبب إطلاق البيان التحذيري في أنه قبل أيام تحديدا في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أعلنت مليشيا جديدة تسمي "الأورطة الشرقية"، نشر قواتها في شرق السودان.
وذلك بالتنسيق مع قوات الجيش التي تخوض حربا طاحنة ضد المتمردين من قوات الدعم السريع.
وقالت مليشيا "الأورطة الشرقية" عبر بيانها "قواتنا الباسلة بقيادة الجنرال الأمين داوود محمود.. تنتشر وتنفتح نحو الإقليم الشرقي بعد عملية مشاورات فنية وعسكرية مع قوات الشعب المسلحة".
وتابعت "ذلك يأتي ضمن إستراتيجية قوات الأورطة الشرقية بحماية الأرض والعرض مع المنظومة الأمنية في البلاد".
والأورطة الشرقية تأتي ضمن أربع مليشيات تلقت تدريبات عسكرية في معسكرات داخل دولة إريتريا.
وقامت هذه المليشيا الجديدة بنشر قواتها في ولاية كسلا المتاخمة لولاية الجزيرة في وسط السودان.
حيث تشن قوات الدعم السريع هجوما داميا على عدد من القرى هناك بعد محاصرتها.
ويقود "الأورطة الشرقية" الجنرال الأمين داود، وهو أحد قادة شرق السودان، وكان وقع نيابة عنه في اتفاق سلام السودان في جوبا عام 2020.
ودربت إريتريا داخل أراضيها وتحت إشراف جيشها أربع مليشيات مسلحة من شرق السودان، بحسب شبكة "سكاي نيوز" الأميركية، في 16 نوفمبر 2024.
وهي "الأورطة الشرقية"، و"قوات مؤتمر البجا المسلح"، و"قوات تحرير شرق السودان"، و"مؤتمر البجا - القيادة الجماعية".
وإلى جانب ذلك قامت حركات دارفورية مسلحة بتدريب أنصارها في شرق السودان في إريتريا.
وهناك أربع مليشيات دارفورية حليفة للجيش تعمل في شرق السودان، وهي "قوات حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وقوات حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وقوات حركة تحرير السودان بقيادة مصطفى طمبور، إضافة إلى قوات تحرير السودان بقيادة صلاح تور.
ملعب مفتوح
وتقاتل تلك الجماعات المسلحة قاطبة مع الجيش ضد متمردي "الدعم السريع"، تحت اسم "القوات المشتركة".
وفي 11 نوفمبر 2024، ذكرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، أن شرق السودان بات ملعبا مفتوحا لأطراف الصراع المركزية.
وأضافت: هو الملاذ الحالي الذي تلجأ إليه الأيادي العابثة بالمشهد السياسي بتحريك أدواتها بالمنطقة، كلما اشتدت وتيرة المعارك وارتفعت درجة حرارة الساحة السياسية.
وأشارت إلى أن شرق السودان ليس مهيئا لتحمل تداعيات وجود أي كيانات مسلحة جديدة.
وأردفت بالقول إن تكوين تشكيلات عسكرية جديدة من قبل مجموعات يقودها سياسيون وزعماء عشائر ورجال دين، سيهدد بانفجار الوضع الملتهب في الإقليم بصورة قد تحيل المنطقة إلى جحيم بالنسبة للجميع، كما هو الحال في سائر أنحاء السودان.
وفي 28 أكتوبر 2024، نشر الناشط السياسي السوداني عزام عبد الله، مقطع فيديو له عبر صفحته بـ"فيسبوك"، حذر فيه من احتمال انفجار النزاعات الكامنة بين هذه المجموعات، ومن تحولها لحرب عابرة للحدود.
وتساءل متعجبا أن تمرد دارفور بدأ بحركتين، وتشظيتا إلى 99 حركة مسلحة، فكيف سيكون الحال في شرق السودان الذي بدأ بأكثر من 8 حركات مسلحة حاليا.
وحذر الناشط السوداني من انفجار الأوضاع في الولايات الشرقية، وقال: "هناك دول في الإقليم (يقصد إريتريا) لم تتورع عن إقامة معسكرات تدريب وتسليح في أراضيها لمكونات قبلية من شرق السودان".
كما رأى أن نشر تلك المليشيات إيذانا بانفجار الأوضاع في الولايات الشرقية المتوترة، بقوله: "هي منطقة متوترة ومنذرة باندلاع نزاعات تحكمها المصالح المتشابكة والمتعارضة لعدد من الدول الإقليمية".
واتهم عزام أطرافا خارجية بالتدخل من أجل تفكيك السودان وجيشه، على رأسها الإمارات وإثيوبيا، التي حولت السودان إلى ضحية لأجندتهم الإقليمية.
إقليم إستراتيجي
ويعد إقليم شرق السودان الذي تتجاذبه تلك الأحداث من المناطق بالغة الأهمية، حيث يضم ثلاث ولايات هي البحر الأحمر وكسلا والقضارف.
ويعد إستراتيجيا كونه يحد إريتريا ومصر وإثيوبيا، ويمتد فيه ساحل على البحر الأحمر طوله نحو 500 كلم، وتوجد عليه مرافئ نفطية.
كما يضم الإقليم 5 أنهر، وأكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون هكتار من الأراضي الزراعية.
هذه الموارد تشكل عناصر مهمة للسودان الذي يعاني من اقتصاد متداع، نتيجة الحرب الأهلية الدائرة، ومن قبلها سوء الإدارة والعقوبات الاقتصادية التي كانت خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير.
وحسب دراسة أعدها الباحث السوداني إدريس نور محمد، بعنوان "إخفاقات الماضي شرق السودان.. وطموحات المستقبل"، فإن حدود الإقليم الشرقي هي البحر الأحمر شرقا، وإريتريا، وإثيوبيا جنوبا، والنيل غربا، حتى حدود النيل الأزرق في الجنوب الغربي، ومصر شمالا.
ويمتد من المنحدرات الشمالية للهضبة الإثيوبية في الجنوب إلى الحدود السودانية المصرية شمالا، وتبلغ مساحته 110 آلاف ميل مربع.
ويمتاز الإقليم من الناحية التاريخية باحتضانه لأقدم الحضارات الإنسانية، كما كان من أهم البوابات التي دخلت من خلالها العروبة والإسلام إلى السودان.
وتقدر ثروات قاع ما تحت البحر الأحمر في تلك المنطقة بمليارات الدولارات، مضافا لذلك المعادن من الأحجار الكريمة، كما توجد معادن أخرى بالإقليم، مثل الحديد والنحاس والتنجستن، هذا إلى جانب الرخام والحجر الجيري.
أما أزمات شرق السودان فليست وليدة اللحظة الراهنة، بل ممتدة منذ تأسيس الجمهورية نفسها عام 1956، ووصلت إلى المطالبة بالحكم الإقليمي، ثم قيام مؤتمر البجا الذي دعا للكفاح المسلح عام 1964، وصولا إلى تكوين جبهة الشرق في عهد النظام السابق.
أما الآن فرغم الانتصارات الأخيرة والمهمة التي يحققها الجيش في حربه ضد الدعم السريع، لكن انفجار الأوضاع وانهيار شرق السودان، الذي يعد قاعدته الرئيسة وقلعته الحصينة، لا يهدد فقط بضياع المكتسبات، بل انهيار البقية الباقية من الدولة المأزومة.