محيي هلال السرحان.. عالم عراقي جليل أفنى حياته خدمة للإسلام واللغة العربية
"رحم الله شيخ المحققين وباعث أصول التحقيق في العراق"
“شيخ المحققين، لغوي وشاعر، مؤرخ ومفكر”.. كل هذه الألقاب تطلق على عالم الشريعة العراقي محيي هلال السرحان العقيلي، الذي وافاه الأجل في 29 يوليو/ تموز 2024، عن عمر ناهز الـ92 عاما بعد رحلة طويلة قضاها في التحقيق، والتفسير، والتدريس الجامعي.
تميّز الراحل بعلمه الغزير في العديد من المجالات، الأمر الذي جعله أحد أبرز علماء العراق خلال أكثر من خمسة عقود، وكان عضوا في الكثير من الجمعيات والنقابات والاتحادات المحلية والعربية، إضافة إلى إسهاماته في رفد المكتبات العلمية بعشرات المؤلفات.
"شيخ المحققين"
نعى العديد من الهيئات والمؤسسات الدينية العراقية والعربية رحيل العقيلي، مؤكدين أن الفقيد ترك بصمة كبيرة خلال مسيرته العلمية منذ خمسينيات القرن العشرين، فهو أحد علماء الشريعة البارزين في العراق والعالم الإسلامي، إضافة إلى تخصصاته الأخرى.
وقال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين خلال بيان له في 30 يوليو، إنه "يعزي في وفاة المفكر والمؤرخ العراقي الدكتور محيي هلال سرحان العقيلي، الذي رحل عن عالمنا عن عمر يناهز الـ 92 عاما".
من جهته، قال المجمع الفقهي لكبار العلماء للدعوة والإفتاء في العراق (أكبر مرجعية للسنة) إن "الفقيد يُعد علما من أعلام العراق والأمة الإسلامية، فهو من أشهر المحققين والمصنفين في الفقه والقضاء واللغة العربية والتفسير والتاريخ والمناهج".
وأضاف المجمع خلال بيان له في 30 يوليو، قائلا: "لقد كان عالما جليلا ومحققا تحريريا ومربيا فاضلا متواضعا محبا لطلاب العلم".
وفي السياق ذاته، قال مجلس علماء العراق خلال بيان نعى فيه السرحان إنه "لا يكاد يخلو أحد من أعضاء المجلس إلا ونهل من علمه وتشهد له قاعات التدريس بصولاته وجولاته".
وأكد المجلس أنه برحيل السرحان "فقدت الأمة قبضة من العلم، فإن الله لا ينتزعه انتزاعا وإنما ينتزعه بقبض العلماء. رحم الله شيخ المحققين وباعث أصول التحقيق في العراق".
من جانبها، نعت هيئة علماء المسلمين في العراق، محيي هلال السرحان، داعية الله أن "يجزيه عن جهوده العلمية؛ بالمغفرة والرحمة والرضوان، وجعل علمه شاهدا له وسبيلا إلى جنات النعيم، وأخلف للعراق والأمة وطلبة العلم فيهما؛ علماء مخلصين يحفظون علوم الشريعة وينشرونها ويدافعون عنها".
ونعته كليات العلوم الإسلامية في العراق، وقالت لجنة عمدائها إنها "تنعى ببالغ الحزن والأسى وفاة الأستاذ الدكتور العلامة محيي هلال السرحان، ذلك العملاق الفكري، المؤرخ البارز، والمعلم الفاضل، فإنها تتقدم بأحر التعازي إلى أسرة الفقيد الكريمة وإلى الأمة العلمية جمعاء بهذا المصاب الجلل".
وأضافت: "لقد رحل عن دنيانا علما زاهرا، وقامة شامخة، فقد كان الفقيد رحمه الله رمزا من رموز العلم والمعرفة، ومثالا يحتذى به في الجد والاجتهاد، وإخلاص العمل، وقد ترك بصمات واضحة في مجال التاريخ الإسلامي، وأسهم بشكل كبير في إثراء المكتبة العربية والإسلامية بكتبه ودراساته القيمة".
كما نعى طلبة كلية الحقوق في جامعة "النهرين" العراقية في بيان لهم، فقيدهم الراحل واحد مؤسسي الكلية الأستاذ الدكتور محيي هلال سرحان، الذي "رفد الكلية بعلمه وأخلاقه وكان مثالا للخلق ومحب للخير والعطاء وطيب القلب ونبيل اللسان".
وأضاف الطلبة إن "السرحان كان له الفضل في تخرج العديد من طلبة الدراسات الأولية ولعليا في كلية الحقوق، خدمة لعراقنا الحبيب وكانت له بصمه علمية في أكثر من جامعة عراقية".
هاشمي الأصل
محيي هلال السرحان الطالبي الهاشمي، المولود في مدينة تكريت العراقية عام 1932، يعد مِن أبرز أعيان آل العكيلي، من الطالبيين الهواشم الأشراف ومن أعلام التربية والتعليم في العراق المعاصر.
ولد المؤرخ من أبوين هاشميين، فوالده من ذرية عقيل بن أبي طالب ووالدته حسنة من ذرية الحسن بن علي أبي طالب، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدينة تكريت خلال الفترة 1941 إلى 1946.
أما مرحلة الدراسة الثانوية فقضاها في مدينة سامراء عام 1946 إلى 1951، ثم دفعته الرغبة في إكمال دراسته، فالتحق بكلية الشريعة ببغداد عام 1955 حتى تخرج فيها عام 1959.
وواصل دراسة الشريعة الاسلامية فحصل على الماجستير فيها من جامعة بغداد بدرجة امتياز عام 1971، ثم سافر إلى مصر حيث حصل على الماجستير أيضا من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1974، وبعدها نال الدكتوراه منها عام 1982 في الفقه المقارن بمرتبة الشرف الأولى.
عمل في بدية مشواره المهني داخل العراق مدرسا في معاهد المعلمين في الكوت، وباحثا علميا في المناهج والكتب بوزارة التربية، والمجمع العلمي العراقي، ثم نقل للتدريس في جامعة بغداد في كلية الآداب في عام 1975 إلى 1980، وبعدها في كلية الشريعة في عام 1980 إلى 1990.
وفي عام 1989 عيّن عميدا للمعهد الاسلامي العالي لإعداد الأئمة والخطباء حتى عام 1990، ثم رئيسا لقسم الفقه وأصوله بجامعة العلوم الإسلامية بجامعة بغداد منذ عام 1990 إلى 1993، ونقل بعدها إلى جامعة تكريت.
وكانت آخر محطاته التدريسية، في كلية الحقوق جامعة النهرين، والتي بقي فيها أكثر من عقد من الزمن، يدرّس طلبة الدراسات الأولية والعليا وتخرج على يديه عشرات الآلاف من الطلبة.
الراحل كان عضو الهيئة التاريخية واتحاد المؤرخين العرب، وعضو نقابة الصحفيين، ومدير تحرير مجلة الرسالة الإسلامية سابقا، ومجلة الشريعة والقانون سابقا، ومجلة جامعة العلوم الإسلامية سابقا، ورئيس تحرير مجلة الحقوق، وكانت له صفحة أسبوعية في جريدة العراق باسم (الدين والتراث) طيلة عشر سنوات.
لغوي وشاعر
امتلك الراحل القدرة المبكرة على كتابة البحوث العلمية ونظم الشعر عندما كان طالبا جامعيا، فقد نشر أول بحث له في مجلة "العلم الجديد" عام 1975، وهو ما يزال طالبا في الكلية، وقد كان (البحث) عن المعلم العربي في العصر الأموي.
وقام السرحان بتحقيق الكثير من المخطوطات التي كان أولها كتاب أدب القاضي للماوردي (المتوفى 450هـ)، وآخرها كتاب طبقات الحنفية لعلي بن أمر الله الحنائي (المتوفى 979 هـ).
وألّف العديد من الكتب سواء كانت منهجية أو تعليمية، كما أسهم في بحوث متعددة داخل وخارج العراق، وأشرف على رسائل الدكتوراه والماجستير ومناقشتها، كما أسهم في نشاط كبير في عدد من الجمعيات والمؤسسات العلمية العراقية والعربية.
وفي نظم الشعر، بدأ السرحان في هذا المجال وهو ما يزال طالبا في الجامعة، وأسهم بقصائده في جميع الأمسيات التي كانت تقام يوم الثلاثاء من كل أسبوع في نادي الكلية.
أما أول قصيدة منشورة له فكانت بعنوان “يا أمة الإسلام”، وذلك في مجلة الرسالة الإسلامية عام 1962، وهي رد على ما أصاب المؤمنين من “أذى وعسرٍ وآلام”.
وله قصيدة أخرى تعبر عن مشاعره الإسلامية، وحبه الصادق للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بعنوان (مولد فخر الكائنات سيدنا محمد) ومطلعها:
صلى عليك الخالق العلام
وعليك في دار البقاء سلام
ويفخر الدكتور محيي هلال السرحان بشهداء العراق على مدى التاريخ بقصيدة طويلة مطلعها:
بدم الشهيد تخضبت هضباتنا
ومن اللهيب تسحرت عزماتنا
وكذلك يفخر الشاعر بلغته وتاريخ أمته ومجدها التليد وهو يخاطب حرف الضاد بمناسبة الاحتفال بيومه (يوم الضاد) في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1993 في أبيات نظمها قبل دقائق من هذا الاحتفال، قال فيها:
حييت عيدك حرف الضاد مُذ كتبوا
تزهو برونقك الأقلام والكتب
ويقول السرحان عن اللغة العربية: إن "هناك ترابطا بين العلوم الشرعية واللغة العربية، إذ لا يمكن فهم القرآن الكريم دون معرفة اللغة والتعرف على إعراب كلماتها ودلالاتها".
وتابع: “ثم إنني لا آتي بجديد عندما أؤكد هذه العلاقة والترابط فهي موجودة مترابطة لدى بعض العلماء العرب وهي تواصل ترابطها مستندة إلى مراحل طويلة من التفاعل”.
وأردف: "وهي تشكل امتدادا لتراثنا العربي ونكون أبناء وتلاميذ أولئك الأجداد الذين استوعبوا وامتلكوا علوم وثقافات عصرهم وكانوا من الموسوعيين المبدعين وتقسيم الوقت من أهم أسباب النجاح إضافة إلى حب المادة التي أكتب فيها".
وشدد السرحان على "ضرورة تعزيز ما عمل عليه أسلافنا والاستفادة منه في هذا الوقت، إذ ليس بالإمكان أن ننفك عن تراثنا الذي قدم الكثير للإنسانية لا سيما في العلوم الشرعية، وإنني أواصل التأليف والتحقيق في هذه المجالات فأتوخى خدمة كتاب الله إضافة إلى ما ذكرت".
وللراحل السرحان دور في حقل اللغة وآدابها فقد أصدر كتاب “دروس في قواعد اللغة وآدابها” وهو يتألف من ثلاثة أجزاء، ثم أعقبه بكتاب “الوجيز في اللغة العربية”.
والكتابان يحاولان تبسيط وتسهيل اللغة للطلبة في مختلف الاختصاصات والمستويات.
وفي مجال التحقيق الذي برع فيه، فقد حقق الكثير من المخطوطات في العلوم الشرعية منها:
أدب القاضي، تأليف الماوردي الذي طبع في جزءين عام 1971-1972.
شرح أدب القاضي للخصاف تأليف الصدر الشهيد ابن مازة الحنفي وطبع بأربعة أجزاء.
تسهيل النظر وتعجيل الظفر للماوردي.
أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي وطبع في جزءين عام 1984.
أدب الفتيا للسيوطي، وطبع عام 1986.
أدب الشهور لابن سراقة العامري، وطبع عام 1990.
مرشدة المشتغلين في أحكام النون الساكنة والتنوين للطبلاوي، طبع عام 2002.
تحفة نجباء العصر في حكام النون الساكنة والتنوين والمد والقصر لزكريا الأنصاري، وطبع عام 1986.
طبقات الحنفية لعلي الحنائي، طبع عام 2004.
التلخيص في تفسير القران العظيم لموفق الدين الموصلي المعروف بالكواشي، في أربعة أجزاء.
وفي التاريخ اشترك في تحقيق كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، بالاشتراك مع الدكتور بشار عواد معروف، وله مؤلفات عديدة، منها:
تحقيق مخطوطات العلوم الشرعية.
القواعد الفقهية ودورها في إثراء التشريعات الحديثة.
أصول تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية.
الشهادتان، معناهما وفضيلتهما وأحكامهما والتوحيد بهما.
النظرية العامة للقضاء في الإسلام.
الوجيز في اللغة العربية لغير المتخصصين.
أصول البحث وتحقيق النصوص في العلوم الإسلامية.
كما اشترك الراحل في تأليف العديد من الكتب المنهجية التي لاتزال تدرّس في الجامعات والمعاهد، منها تحقيق “مخطوطات العلوم الشرعية”.
المصادر
- الاتحاد يعزي في وفاة المفكر والمؤرخ العراقي الدكتور محي هلال سرحان العقيلي عن عمر يناهز 92 عامًا
- وفاة الدكتور محيي هلال السرحان
- مبدعون عراقيون: الدكتور محي هلال السرحان الطالبي الهاشمي
- ينعى طلبة جامعة النهرين فقيدهم الراحل واحد مؤسسي كلية الحقوق
- بغداد: المجمع الفقهي يكرم شيخ المحققين العراقيين
- المجمع الفقهي: تعزية بوفاة العلامة الدكتور (محي هلال السرحان) رحمه الله
- محي هلال السرحان
- تعزية لجنة العمداء لكليات العلوم الاسلامية بوفاة الأستاذ الدكتور العلامة محي هلال السرحان
- هيئة علماء المسلمين في العراق: نعي الأستاذ الدكتور (محيي هلال السرحان) رحمه الله تعالى
- مجلس علماء العراق: رحم الله شيخ المحققين الاستاذ الدكتور محي هلال السرحان