70 بالمئة من المباني مدمرة.. ما مصير ملف إعادة إعمار غزة؟

بات مئات آلاف الفلسطينيين بلا مأوى منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر 2023
في لحظة تبدو كأن الزمن توقف فيها، وقف الشاب الفلسطيني أحمد عقيل (40 عاما) مذهولا، وقد تجمدت عيناه عندما رأى لأول مرة، منزله المدمر في شمال قطاع غزة.
عقيل كان أحد الذين اضطروا للنزوح من شمال القطاع نحو مدينة غزة مع اشتداد القصف الإسرائيلي، وتمكن اليوم من العودة بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار ليجد منزله بلا أثر.
ويروي هذا الشاب لـ"الاستقلال" كيف تحولت الجدران التي بناها بعد سنين من التعب والعمل إلى مجرد كومة من الركام، متسائلا عن الزمن الذي قد يستغرقه إعادة بنائه.

حجم الدمار
ويواجه الفلسطينيون في غزة اليوم مشهدا مأساويا من الدمار بعد وقف إطلاق النار في 19 يناير/كانون الثاني 2025، عقب أكثر من 15 شهرا من العدوان الإسرائيلي.
وبات مئات الآلاف من الفلسطينيين بلا مأوى منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأصبحوا يتخذون من خيام مهترئة ملاذا لهم من حر الصيف وبرد الشتاء.
ففي القطاع المحاصر، حيث تنتشر مخيمات اللاجئين المبنية بين المدن، تُظهر لقطات الطائرات بدون طيار أكوامًا من الأنقاض تمتد إلى ما لا نهاية. وستكون هناك حاجة لمليارات الدولارات لإعادة بناء غزة بعد الحرب، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة.
وأظهر تقييم أجرته المنظمة الأممية في يناير /كانون الثاني 2025، أن إزالة أكثر من 50 مليون طن من الأنقاض المتبقية في أعقاب القصف الإسرائيلي قد يستغرق 21 عاما ويكلف ما يصل إلى 1.2 مليار دولار.
ويُرجح كذلك أن الأنقاض تحتوي على بقايا بشرية، حيث تقدر وزارة الصحة الفلسطينية في غزة وجود 10 آلاف جثة مفقودة تحت الركام.
وقال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، خلال تقرير له في 22 أكتوبر /تشرين الأول 2024، إن الحرب تسببت في محو التنمية التي تمت في قطاع غزة على مدار 69 عاما.
وستستغرق إعادة بناء المنازل المدمرة حتى عام 2040 على الأقل، لكنها قد تستمر لعقود عديدة، وفقا لتقرير آخر صدر عن الأمم المتحدة في 2024.
ووفقا لبيانات الأقمار الصناعية للأمم المتحدة (يونوسات) نشرتها في ديسمبر/ كانون الأول 2024، فقد تضرر أو سوي بالأرض ثلثا مباني قطاع غزة التي بنيت قبل الحرب، بما يتجاوز 170 ألف مبنى. وهذا يعادل حوالي 69 بالمئة من إجمالي المباني.
وحسب تقديرات يونوسات، فإن إجمالي الوحدات السكنية المتضررة في القطاع بلغ 245.123 وحدة.
ولكن الدمار لم يكن ناجماً فقط عن الضربات الإسرائيلية، فقد أنشأ جيش الاحتلال أيضاً منطقة عازلة على بعد كيلومتر واحد تقريبا داخل غزة من حدودها مع الأراضي المحتلة، وفعل كذلك أنشأ داخل ممر نتساريم الذي يقسم شمال قطاع غزة عن جنوبه، وعلى طول ممر فيلادلفيا، بين القطاع ومصر. ولفعل ذلك كله، جرى تدمير مساحات شاسعة من هذه المناطق.
وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إن أكثر من 1.8 مليون شخص في حاجة إلى مأوى طارئ في غزة.
وأفاد تقرير مشترك للأمم المتحدة والبنك الدولي بأن إجمالي الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية بلغ 18.5 مليار دولار حتى نهاية يناير 2024، مما أثر على المباني السكنية والتجارة والصناعة والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والطاقة. ولم يقدم البنك تقديرًا أحدث لهذا الرقم.
وأظهر تحديث أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في يناير/كانون الثاني 2025 أن أقل من ربع إمدادات المياه قبل الحرب متاحة الآن، في حين تضرر ما لا يقل عن 68 بالمئة من شبكة الطرق.
كما أظهرت صور الأقمار الصناعية التي حللتها الأمم المتحدة أن أكثر من نصف الأراضي الزراعية في غزة، والتي تعد حيوية لإطعام سكان القطاع الجائعين الذين مزقتهم الحرب، قد تدهورت بسبب العدوان.
وتكشف البيانات عن ارتفاع في تدمير البساتين والمحاصيل الحقلية والخضراوات في الجيب الفلسطيني، حيث ينتشر الجوع على نطاق واسع.
وقالت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة عام 2024، إن 15 ألف رأس من الماشية (أكثر من 95 بالمئة من إجمالي عدد هذه الحيوانات)، ذبح أو مات منذ بدء الصراع، ونصف الأغنام تقريبا.
وتظهر بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن العدوان الإسرائيلي أدى إلى تدمير أكثر من 200 منشأة حكومية، و136 مدرسة وجامعة، و823 مسجدا، وثلاث كنائس.
فيما تضرر أغلب المستشفيات ولم يعد يعمل منها سوى 17 وحدة طبية جزئيا من أصل 36 حتى يناير/ كانون الثاني 2025.
وسلط مختبر أدلة الأزمات التابع لمنظمة العفو الدولية الضوء على مدى الدمار على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة.
فحتى مايو/أيار 2024، جرى تدمير أو تضرر أكثر من 90 بالمئة من المباني في هذه المنطقة، بما في ذلك أكثر من 3500 مبنى.
إعادة الإعمار
وفي ضوء هذه الأرقام الصادمة، أصبح ملف إعادة إعمار قطاع غزة بمثابة جرح مفتوح بعد وقف إطلاق النار، في ظل غياب اليقين بشأن الزخم الذي ستحتله هذه القضية في أجندة الدول العربية والغربية.
ولم تأت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار المكون من 3 مراحل، على ذكر إعادة إعمار قطاع غزة.
ويتوقع أن يجرى نقاش هذا الملف في المرحلة الثالثة، في وقت بدأ الفلسطينيون بما يتوفر لديهم من أدوات وآليات بسيطة بإزالة بعض الركام بحثا عن مفقوديهم.
وقال الناشط الفلسطيني محمد العيلة على منصة "إكس": “بالرغم من سريان وقف إطلاق النار، لم نسمع عن تعهد أي دولة عربية لبناء مستشفيات، أو استيعاب جرحى، أو إدخال بيوت مؤقتة، إلخ رغم حاجة القطاع الشديدة! الدولة الاستثناء هي قطر. عسى العرب بخير؟”.
وأوضح الناشط الغزي يحيى بشير: “حتى اللحظة لم تُبادر أي دولة عربية للتكفل بعلاج بعض الجرحى أو إنشاء مستشفيات كبرى على غرار مشافي القطاع أو أصغر منها على الأقل!”.
وتابع في تغريدة على إكس: “لم نشاهد إعلانا أو مبادرة من دول المنطقة الكبرى العربية الأغنى في العالم لبناء مدرسة أو مسجد أو ترميم كنيسة أو إعمار محافظة من محافظات غزة، أين العرب؟”.
وبدأت قطر بإرسال الوقود والطرود الغذائية إلى غزة، في وقت تغيب الدول العربية الفاعلة الأخرى عن المشهد الإنساني تماما.
ويتوقع فلسطينيون أن تسهم قطر في إعادة إعمار غزة، كما فعلت بعد عام 2012 الذي شهد زيارة تاريخية ونادرة إلى القطاع، أجراها الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة.
ويتخوف عقيل من عدم إبداء الدول العربية اهتماما بإعادة الإعمار والتركيز فقط على الجانب الإنساني من مواد غذائية ودوائية ومراكز إيواء وخيم يبقى الفلسطينيون فيها مدة طويلة.
ولفت إلى أن الدول العربية التي لم تقف مع غزة خلال العدوان، ومنها مصر والسعودية لن تبادر لإعادة الإعمار دون مصالح خاصة.
وتوقع أن يدفع الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الدولتين نحو الإعمار، بحيث تمول السعودية وقطر ودول خليجية أخرى العملية، فيما تؤدي مصر دورا تنفيذيا عبر الشركات المختصة.

وبعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو/أيار 2021 الذي عرف وقتها بمعركة "سيف القدس"، بدأ نظام عبد الفتاح السيسي بالسعي لاستغلال التوتر من أجل تبييض صورته دوليا وتعزيز نفوذه إقليميا وتحقيق مكاسب داخلية.
وقالت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" العبرية في 11 يونيو/حزيران من ذات العام، إن "السيسي سعى لاستغلال إعادة إعمار قطاع غزة لتعزيز نفوذه".
ويولي السيسي العلاقات مع إسرائيل أهمية كبيرة، بسبب الفوائد الكبيرة التي تتلقاها القاهرة من واشنطن كمكافأة لها.
فمنذ توقيع معاهدة السلام مع تل أبيب عام 1979، تتلقى مصر 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأميركية سنويا، مخصصة لمكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، مما يسهم أيضا في أمن إسرائيل.
ولدى تسلمه مهامه في 20 يناير، قال ترامب، أثناء تحدثه مع صحفيين في المكتب البيضاوي: "لا بد من إعادة بناء غزة بطريقة مختلفة…. يمكن القيام ببعض الأشياء الرائعة هناك"، دون توضيح.
وتابع: “نظرت إلى صورة لغزة. هي أشبه بموقع هدم هائل. ذاك المكان لا بد من إعادة بنائه بطريقة مختلفة”.
وفي سؤال عن إمكانية مساعدته في بناء القطاع المدمر، قال: “قد أفعل ذلك. كما تعلمون، غزة مثيرة للاهتمام. إنها موقع رائع. على البحر، وطقسها الأفضل. كما تعلمون، كل شيء جيد. يمكن القيام ببعض الأشياء الجميلة بها”.
وبدوره، يرى أستاذ حل النزاعات الإقليمية والدولية علي الأعور إن “إعادة إعمار غزة هي استحقاق وطني إقليمي ودولي وعلى الجميع أن يشارك بها”.
ولفت في مقابلة تلفزيونية إلى أن “الكل كان عاجزا وصامتا أمام تدمير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لغزة، ومن الواجب الآن أن يسهموا بإعادة الإعمار”.
وتابع: “لا نريد أن يكون هناك مجرد كلام وشعارات ومطالبات، وأن تدخل غزة في عملية إعمار وتأهيل كاملة حتى فيما يتعلق بالإستراتيجيات والقرارات والقيادات”.
ويتعقد ملف إعادة الإعمار بالنظر إلى تواصل الانقسام الفلسطيني ورفض واشنطن والدول الغربية وبعض البلدان العربية بقاء حركة المقاومة الإسلامية حماس في الحكم.
ويزداد الأمر تعقيدا بالنظر إلى رفض إسرائيل أيضا حكم سلطة محمود عباس التي تتهمها، إلى جانب حماس، برعاية "الإرهاب"، وفق زعمها.
وهو ما قد يدفعها لوضع العراقيل لاحقا أمام دخول مواد وآليات ومعدات وحتى الأموال اللازمة لإعادة الإعمار.

كم تحتاج العملية؟
وحذر مسؤول أممي في غزة من أن عملية إعادة الإعمار في الأراضي الفلسطينية المدمرة "ستستغرق وقتا طويلا للغاية" على الرغم من الزيادة الموعودة في المساعدات الإنسانية.
وقال سام روز القائم بأعمال مدير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في غزة لموقع بي بي سي البريطاني "نحن لا نتحدث فقط عن الغذاء والرعاية الصحية والمباني والطرق والبنية الأساسية. لدينا أفراد وأسر ومجتمعات تحتاج إلى إعادة البناء".
وأضاف: “لقد أصيب كل شخص في غزة بصدمة بسبب ما حدث، فقد الجميع شيئًا ما. لقد دمرت معظم المنازل والطرق الآن وستكون عملية الإعمار والتأهيل طويلة جدًا”.
وقال أستاذ تاريخ العمارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مارك جارزومبيك لوكالة بلومبيرغ الأميركية إن ما نراه في غزة هو شيء لم نشهده من قبل في تاريخ التخطيط الحضري".
وتابع جارزومبيك الذي درس إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، في 16 أغسطس/آب 2024: أن ما جرى "ليس مجرد تدمير للبنية التحتية المادية؛ بل أيضا للمؤسسات الأساسية للحكم والشعور بالحياة الطبيعية".
وأضاف أن "تكلفة إعادة الإعمار ستكون باهظة للغاية. ويجب أن تكون مواقع البناء بهذا الحجم خالية من الناس، مما يؤدي إلى موجة أخرى من النزوح. وبغض النظر عن ذلك، فإن غزة ستظل تكافح لأجيال".
لكن ومع الاعتراف بحجم الدمار الهائل، فإن مختصين فلسطينيين من بينهم المهندس والناطق باسم بلدية غزة عاصم النبيه يشككون بالتقارير التي تتحدث عن مدة طويلة لإزالة الأنقاض وإعادة البناء.
وقال النبيه في مقطع فيديو نشره على حسابه بمنصة "إكس"، إن هذه التقديرات لا تراعي جميع العوامل المتعلقة بإزالة الركام وإعادة الإعمار.
وأضاف أن “أحد أهم هذه العوامل هو عدد العاملين في مجال رفع الركام وعدد الساعات اليومية، بالإضافة إلى توافر المعدات والآليات الثقيلة اللازمة”.
وأكد أن عملية إزالة الركام قد تستمر عامًا فقط على أقصى تقدير إذا توفرت المعدات اللازمة والعاملون.
كما رأى فلسطينيون آخرون أن عدد السنوات والتكلفة المالية التي ترد في التقارير الدولية هي جزء من الحرب النفسية.
وعلق الباحث علي أبو رزق بالقول إن بعض “التقارير ليست بريئة أبدا، وهي تحاول زرع هزيمة نفسية أكبر من نفوس الناس وصولا إلى حياة اليأس المطلق".
وبين أن تلك التقارير تريد أن توصل رسالة إلى شباب غزة الذي يشعر باليأس بسبب تخلي الجميع عنه أن الحياة لم تعد صالحة في القطاع "مما يقودهم إلى مرحلة الهجرة الطوعية بعد فشل مخطط التهجير القسري”.
واستدل على ذلك بتقارير في حروب سابقة مثل العدوان على غزة عام 2014 والتي قالت وقتها إن إزالة الركام تحتاج إلى 7 أو 10 سنوات، لكن الأمر لم يكن كذلك.
وأردف: “في تركيا مثلا بعد عام ونصف من الزلزال المدمر الذي ضرب عدة مدن (وكان مركزه في كهرمان مرعش فبراير/شباط 2023)، أزيل 75 بالمئة من الركام بواقع 150 مليون طن”.
وتابع: “المهم هنا فتح المعابر ورفع الحصار وإدخال شركات عربية للمساهمة بالإعمار وإزالة الركام كما فعلت شركات مصرية بعد العدوان على غزة عام 2021”.