دانيال إلسبيرغ.. مسرب "أوراق البنتاغون" الذي هز عرش نيكسون وأنهى حرب فيتنام
"أخطر رجل في أميركا والأب الحقيقي لكاشفي الفساد"، هكذا كان يوصف الأميركي دانيال إلسبيرغ، الذي سرّب وثائق سرية من البنتاغون فضحت مدى تزييف حكومات الولايات المتحدة الرأي العام حول حرب فيتنام، ما أحدث انعطافة كبيرة في تاريخ البلاد.
واشتهر إلسبيرغ في أوائل سبعينيات القرن العشرين بعد تسريب 7000 وثيقة سرية عُرفت باسم "أوراق البنتاغون" التي كشفت أن حكومات أميركية عدة كذبت على الشعب الأميركي بشأن حرب فيتنام، وأكدت له أنه من الممكن الانتصار في الحرب على عكس التقارير الميدانية.
وفي 16 يونيو/ حزيران 2023، توفي إلسبيرغ عن عمر ناهز الـ92 عاما في منزله بكاليفورنيا، جراء سرطان البنكرياس الذي شُخصت إصابته به في 17 فبراير من العام نفسه، حسبما أعلن أولاده وزوجته في بيان أشاروا فيه إلى أنه "لم يعانِ، وكان محاطا بعائلته".
وفي بيان النعي، قالت عائلة إلسبيرغ إن "دانيال كان باحثا عن الحقيقة وصادقا وطنيا، وناشطا مناهضا للحرب، وزوجا محبوبا، وكذلك أبا وجدا، وصديقا عزيزا للكثيرين، ومصدر إلهام لعدد لا يحصى من الأشخاص".
وكان إلسبيرغ قد صرّح في مارس 2023، أنه مصاب بسرطان عضال، وأنه لم يتبق له سوى "ثلاثة إلى ستة أشهر".
ضابط واقتصادي
وُلد دانيال في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي، في 7 أبريل/ نيسان 1931، ابنا لهاري وأديل (تشارسكي) إلسبيرغ، فقد كان والداه من اليهود الأشكناز (تجمعوا من الشتات في الإمبراطورية الرومانية نهاية الألفية الأولى) واعتنقوا المسيحية لاحقا، وترعرع باعتباره مسيحيا.
نشأ دانيال في ديترويت والتحق بمدرسة كرانبروك في بلومفيلد هيلز، وأرادت والدته أن يكون عازف بيانو، لكنه توقف عن العزف في يوليو 1946، بعد مقتل والدته وأخته بحادث سير أثناء انعطاف سيارة العائلة واصطدامها بحائط.
التحق إلسبيرغ بكلية هارفارد بمنحة دراسية، وتخرج بمرتبة الشرف ببكالوريوس آداب في الاقتصاد في عام 1952، وبعدها انتقل إلى جامعة كامبريدج لمدة عام، ثم عاد إلى الأولى لغرض الدراسات العليا.
وفي عام 1954، جُنّد في قوات مشاة بحرية الولايات المتحدة، وشغل منصب قائد مجموعة في الفرقة البحرية الثانية، وسُرّح في عام 1957 برتبة ملازم أول، ثم عاد إلى جامعة هارفارد بصفة زميل مبتدئ في مجتمع الزملاء لمدة عامين.
وبدأ إلسبيرغ العمل كمحلل إستراتيجي في مؤسسة راند (البحثية) لصيف عام 1958 ثم بشكلٍ دائم في عام 1959، إذ ركز على الإستراتيجية النووية وعلى قيادة الأسلحة النووية والسيطرة عليها.
وأكمل إلسبيرغ درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد في عام 1962، إذ استندت أطروحته حول "نظرية القرار" إلى مجموعة من تجارب التفكير التي أظهرت أن القرارات في ظل ظروف الارتياب أو الالتباس قد لا تتوافق عموما مع الاحتمالات الذاتية المحددة جيدا.
"أخطر رجل"
عمل إلسبيرغ في وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) منذ 1964، والتي كان يقودها في حينها روبرت ماكنامارا، وكان بصفة مساعد خاص لمعاون الوزير لشؤون الأمن الدولي جون ماكنوتون.
ذهب إلسبيرغ إلى فيتنام الجنوبية لمدة عامين، حيث عمل بصفة عضو في وزارة الخارجية، ثم عاد للولايات المتحدة والعمل في مؤسسة راند عام 1967، ساهم في دراسة سرية للغاية للوثائق السرية حول إدارة حرب فيتنام والتي كُلفت من وزير الدفاع ماكنامارا.
أصبحت هذه الوثائق، التي وُضعت في عام 1968، تعرف باسم "أوراق البنتاغون"، إذ توصل إلسبيرغ من خلال دراسة سجلات الحكومة الأميركية، إلى فهم حرب فيتنام، وأثبت أن التدخل الأميركي في ما يُدعى "الحرب الأهلية حقًا" ليس سوى خرافة.
ونجح إلسبيرغ في تسريب وثائق سرية من داخل وزارة الدفاع الأميركية عام 1971، إذ وصف حينها في وسائل الإعلام والصحافة بأنه "أخطر رجل في أميركا".
وأدى ذلك إلى رفع قضية في المحكمة العليا، حيث حاولت إدارة نيكسون منع نشر الوثائق المسربة في صحيفة "نيويورك تايمز"، وواجه إلسبيرغ اتهامات بالتجسس لكنها أُسقطت عنه في النهاية.
لعقود من الزمان، ظل إلسبيرغ من أشد المنتقدين لتجاوزات الحكومة الأميركية والتدخلات العسكرية، إذ ما اطلع عليه وتعلمه خلال تلك الفترة كان له تأثير كبير على ضميره. واعتقد أن الجمهور فقط لو عرف فإنه سيجعل الضغط السياسي لإنهاء الحرب لن يقاومه أحد.
وبناء على هذا المنطق كان قراره بالكشف عن "أوراق البنتاغون"، التي كانت مكونة من 7000 صفحة حكومية تتضمن عمليات الخداع التي مارسها الرؤساء الأميركيون على الشعب لإخفاء حقيقة الحرب في فيتنام.
وتناقضت المعلومات في الأوراق مع تصريحات الحكومة الأميركية العلنية حول الحرب، وساعدت المعلومات التي سُربت في إنهاء هذه الحرب، وكانت أولى الخطوات التي أدت إلى تراجع الرئيس ريتشارد نيكسون، وسقوطه في النهاية.
مُغيّر الحرب
وبعد وفاة مسرّب "أوراق البنتاغون"، نقل موقع "بي بي سي" البريطاني في 17 يونيو 2023 تصريحات عن رئيس تحرير صحيفة "الغارديان" السابق آلان روسبريدغر، قال فيها إن إلسبيرغ كان "الأب الحقيقي لكل كاشفي التجاوزات والفساد اللاحقين".
وأضاف أن تدخل إلسبيرغ "غيّر بشكل جذري الرأي العام الأميركي حول حرب فيتنام". وقال إن القضية المرفوعة ضده كانت تشكل سابقة، "ولم تحاول أي حكومة أميركية على الإطلاق إصدار أمر قضائي زجري لمنع نشر أي ورقة لأسباب تتعلق بالأمن القومي منذ ذلك الحين".
وأكد روسبردغر، أن المبلغين عن المخالفات مؤخرا مثل جوليان أسانج (صحفي أسترالي أسس موقع ويكيليكس) وإدوارد سنودن (موظف سابق لدى وكالة المخابرات المركزية الأميركية، ووكالة الأمن القومي سرّب برنامج التجسس بريسم) ، تأثروا بما فعله إلسبيرغ.
وأشار إلى أن قضية أوراق البنتاغون دفعته إلى التفكير "من الذي سيحدد المصلحة الوطنية: هل هي الحكومة الحالية أم الأشخاص الذين لديهم ضمير مثل دانيال إلسبيرغ؟".
وخلقت "أوراق البنتاغون" في وقتها صداما حول التعديل الأول من الدستور الأميركي بين إدارة نيكسون وصحيفة "نيويورك تايمز"، التي نشرت أولا قصصا تستند إلى هذه الأوراق، ووصف مسؤولون حكوميون هذه الأوراق بأنها عمل تجسس يهدد الأمن القومي.
وأصدرت المحكمة العليا الأميركية حكمها لصالح حرية الصحافة، إذ اتهم إلسبيرغ بمحكمة فيدرالية في لوس أنجلوس عام 1971 بالسرقة والتجسس والتآمر وتهم أخرى.
ولكن قبل أن تتوصل هيئة المحلفين إلى حكم، رفض القاضي القضية مشيرا إلى سوء سلوك حكومي خطير، بما في ذلك التنصت غير القانوني على المكالمات الهاتفية.
وكشف القاضي أنه في منتصف نظره في القضية عرض عليه أحد كبار مساعدي الرئيس نيكسون منصب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي. كما اتضح أنه كانت هناك عملية سطو بموافقة الحكومة على مكتب الطبيب النفسي الذي يذهب إليه إلسبيرغ.
مناهض للحروب
استمر إلسبيرغ على نهجه الرافض لدخول بلاده في حروب، وحذر قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 من وقوع سيناريو يشابه حادث خليج تونكين واستخدامه كمبرر للدخول في حرب.
وخليج تونكين" هي مواجهة حصلت في 2 و 4 أغسطس/ آب 1964، تبادلت خلالها كل من فيتنام الشمالية آنذاك بواسطة زوارق الطوربيد ومدمرتين من الولايات المتحدة، إطلاق نار على أهداف قيل إنها رصدت بواسطة الرادار.
ورغم تحميل التقرير الأميركي الأصلي فيتنام الشمالية المسؤولية عن الحادثين، لكن تقريرا صدر في عام 2005 من وكالة الأمن القومي الأميركية، أفاد بأنه لم يكن هناك هجوم من فيتنام الشمالية في 4 أغسطس 1964.
ودعا إلسبيرغ قبل احتلال بغداد من وصفهم بـ"دخلاء" الحكومة إلى إشهار ما لديهم من معلومات تعاكس ادعاءات إدارة جورج دبليو بوش (الرئيس الأميركي الأسبق) وأثنى على سكوت ريتر (مفتش أسلحة الأمم المتحدة في العراق 1991 إلى 1998) بخصوص هذا الأمر.
ودعم الناشط الأميركي الراحل جهود المترجِمة العاملة في مكاتب الاتصالات الحكومية (البريطانية) كاثرين غان المعروفة بتسريب معلومات سرية للغاية إلى الصحافة تتعلق بأنشطة غير قانونية تقوم بها واشنطن في مساعيها من أجل غزو العراق عام 2003.
ودعا إلسبيرغ الآخرين إلى أن يحذوا حذو كاثرين غان، في تسريب أي أوراق ووثائق تُظهر أكاذيب الحكومة حول غزو العراق.
ثم اعتقل في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2005 بسبب مخالفته لقانون خاص خلال تظاهره ضد ممارسات جورج دبليو بوش في حرب العراق.