دعم سري وحرب علنية.. ماذا وراء العلاقة الغامضة بين فرنسا وتنظيم الدولة؟
.jpg)
أصيبت الأوساط السياسية الأوروبية بصدمة بعد الكشف عن وثائق تثبت تورط الأجهزة الأمنية والاستخبارات الفرنسية، التي يطلق عليها المديرية العامة للأمن الخارجي "DGSE"، في التستر على دعم شركة فرنسية كبرى، لتنظيم الدولة بالأموال والمستلزمات، التي استخدمها لاحقا في التحصينات.
هذه الواقعة التي يحقق فيها القضاء الفرنسي، وتشغل الرأي العام، تثير تساؤلات كثيرة ومتعددة العناوين ومتشابكة الأغراض، عن سياسة فرنسا، التي لطالما ضيقت على المسلمين في أراضيها، وأقامت قوانين ووحدات استخباراتية خاصة لاستهدافهم مثل "سارومان"، تحت مظلة اتقاء الإرهاب والتطرف.
وفرنسا أحد الحلفاء الرئيسين في الحرب طويلة الأمد التي يخوضها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الذي انتشر قبل سنوات في سوريا والعراق، إذ تستخدم طائراتها المقاتلة في قصف المناطق السورية، كما تدعم مدفعيتها الثقيلة المقاتلين الأكراد، ويوجد لها قوات خاصة على الأرض.
تعاونت مع تنظيم الدولة ودفعت له الملايين.. القضاء الفرنسي يدين "لافارج" الفرنسية لصناعة الأسمنت pic.twitter.com/0nGQCFfKIi
— صحيفة الاستقلال (@alestiklal) September 9, 2021
وثائق "لافارج"
ومن التساؤلات التي لاحت مجددا: لماذا شاركت فرنسا في التحالف ضد تنظيم الدولة وقصفت المدن والمناطق السورية وأمدت المنظمات الكردية بالدعم مثل وحدات حماية الشعب "ي ب ج"، ومن جهة أخرى سمحت لشركاتها بإمداد التنظيم ومساعدته؟
التناقضات الظاهرية قد تخفي كثيرا من التقاطعات الباطنة بين ما تعلنه الحكومة الفرنسية من محاربة التطرف متمثلا في تنظيم الدولة، ثم تتورط أذرعها الأمنية والاقتصادية في دعمه.
ففي 7 أغسطس/ آب 2021، كشفت وكالة الأناضول التركية الرسمية عن حصولها على وثائق تثبت علم الاستخبارات الفرنسية بتمويل شركة "لافارج" لتنظيم الدولة بالإسمنت.
الوثائق الواردة هي مراسلات ومستندات لمؤسسات فرنسية، تظهر اطلاع الإليزيه والمؤسسات العسكرية والأمنية على علاقة قائمة بين التنظيم وشركة "لافارج" الفرنسية النشطة في سوريا.
ودفعت "لافارج" مبلغ 13 مليون يورو لجماعات مسلحة في سوريا، على رأسها تنظيم الدولة بين العامين 2013 و2014، لضمان استمرار العمل في مصانعها بالبلاد.
لم تكتف بذلك، فبحسب محاضر القضاء الفرنسي، فإن التنظيم اشترى كميات كبيرة من الإسمنت من "لافارج"، واستخدمتها في بناء تحصينات قوية ضد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والتي تشارك فيه القوات الفرنسية كعنصر أساسي.
وهو ما جعل الوضع محل دهشة، خاصة أن الوثائق أكدت حصول "لافارج" على دعم قوي من جهاز الاستخبارات الفرنسي.

انتكاسة "لافارج"
لم تكن "لافارج" الفرنسية مجرد شركة عادية ضمن آلاف الشركات التي تعم البلاد، بل هي عملاق الإسمنت العالمي، التي تأسست في باريس عام 1833.
وهي شركة مساهمة فرنسية متخصصة في الإسمنت والخرسانة ومواد البناء، وإحدى الشركات التابعة لمجموعة لافارج هولسيم العالمية.
يبلغ عدد موظفي الشركة 63 ألفا، وتوجد فروعها في معظم دول العالم، وبلغت أرباحها السنوية عام 2014، حين كانت تدعم تنظيم الدولة، أكثر من 12 مليار يورو، بحسب التقرير السنوي، رافعة شعار "بناء مدن أفضل".
ويبدو أن هذا الشعار تراجع أمام أطماع الشركة في الوجود داخل سوريا أثناء الحرب الطاحنة هناك، ولو على حساب الشعب السوري المنكوب، ودفعت ملايين اليوروهات للتنظيمات المتطرفة، حتى تستمر في أعمالها.
وفي 7 أغسطس/ آب 2021، ألغت محكمة النقض الفرنسية، قرار محكمة الاستئناف في باريس القاضي بإبطال الاتهام، الموجه إلى شركة لافارج بـ"التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية" في التحقيق بشأن أنشطتها في سوريا حتى العام 2014.
ومثل الحكم الصادر عن أعلى هيئة قضائية فرنسية، انتكاسة كبيرة للشركة، المتهمة بدفع ملايين اليوروهات لمليشيات مسلحة بينها تنظيم الدولة، لاستمرار العمل في مصنعها للإسمنت في شمال سوريا في بداية النزاع.
وكانت "لافارج" قد أقرت بعد تحقيق داخلي بأن الشركة السورية التابعة لها دفعت أموالا لجماعات مسلحة لمواصلة عملياتها في البلاد بعد 2011، لكنها رفضت حقيبة التهم الموجهة لها في التحقيقات أمام القضاء الفرنسي.
وقال بيان محكمة النقض الفرنسية الموجه ضد الشركة: "يكفي دفع ملايين الدولارات، عن إدراك مسبق إلى جماعة هدفها إجرامي، لإعطاء صفة التواطؤ، بغض النظر عن أن هدف الطرف المعني (لافارج) كان ممارسة نشاط تجاري".
ولكن الأدهى أن المخابرات الفرنسية كانت على علم كامل بعلاقة الشركة بالتنظيم، ومع ذلك تسترت على الوضع، ولم تحذر الشركة من مغبة الأمر.

تدمير سوريا
من الدعم المتستر لتنظيم الدولة إلى القصف العلني، حملت فرنسا تناقضاتها.
وعلى سبيل المثال في 14 أبريل/ نيسان 2018، استخدمت فرنسا تقنيات عسكرية مهمة ومتطورة، تضمنت 9 طائرات مطاردة و5 فرقاطات من الطراز الأول، كما أطلقت للمرة الأولى صواريخ بحرية عابرة لضرب مواقع داخل سوريا، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
حينها أطلقت القوات المسلحة الفرنسية 12 صاروخا، من أصل مئة، استهدفت سوريا، منها 3 صواريخ بحرية، طراز "إم.دي.دي.إن" التي يبلغ مداها ألف كلم، وتتسم بدقة عالية، أطلقتها فرقاطة متعددة المهام، حسب المعلومات التي قدمها الإليزيه ووزارة الدفاع.
السياسة الفرنسية العابثة نحو سوريا، حفزت كثيرين على انتقادها، منهم الضابط الكبير بالجيش الفرنسي الكولونيل فرانسوا ريجي لوجييه.
شن هذا الأخير هجوما حادا ووجه انتقادات لاذعة إلى حكومة بلاده، تجاه إستراتيجيتها في سوريا.
الكولونيل لوجييه شارك في القتال داخل الأراضي السورية، وتولى مسؤولية توجيه المدفعية الفرنسية التي تدعم جماعات يقودها الأكراد.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، كتب لوجييه مقالة لمجلة "ناشيونال ديفينس ريفيو" الفرنسية، قال فيها: "إن التحالف ركز على الحد من الأخطار التي تواجهه، وأدى هذا إلى زيادة كبيرة في عدد القتلى من المدنيين ومستويات الدمار".
وأضاف الضابط الذي لا يزال في الخدمة العسكرية، "دمرنا بشكل هائل البنية الأساسية وأعطينا الناس صورة مقيتة لما قد تكون عليه عملية تحرير بلد على الطراز الغربي، مخلفين وراءنا بذور ظهور وشيك لعدو جديد".
وأوضح: "التحالف كان يمكنه القضاء على المقاتلين المتشددين، الذين لا يتجاوز عددهم ألفي مقاتل يفتقرون إلى الغطاء الجوي أو العتاد التكنولوجي الحديث، بشكل أسرع وأكثر كفاءة بكثير من خلال إرسال ألف جندي فقط".
وتسبب هذا المقال في إحراج كبير للحكومة الفرنسية، وفي 16 فبراير/ شباط 2019، أعلن الجيش الفرنسي في رسالة نصية "يجري دراسة فرض عقوبة على الضابط لوجييه".
ولم يكن يعلم الضابط الفرنسي آنذاك، أن بلاده التي تعد أحد الحلفاء الرئيسين في الحرب ضد تنظيم الدولة في سوريا والعراق، متورطة بشكل أو بآخر في إمداده ودعمه بالأموال، وما تتطلبه التحصينات.

"داعمة الإرهابيين"
التورط الفرنسي الأخير في قضية دعم تنظيم الدولة، يفتح الباب على ملف إمداد باريس لمليشيات أخرى بالأسلحة والعتاد والخبرات والدعم اللوجيستي داخل سوريا، في الحرب التي أودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين، وخلفت أزمة لاجئين غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.
وعلى وجه الخصوص، فإن الحكومة الفرنسية لها باع طويل في دعم منظمتي "حزب العمال الكردستاني (بي كا كا)"، و"وحدات حماية الشعب الكردية (ي ب ج)" وكلاهما تعتبرهما أنقرة تنظيمات "إرهابية"، ومن أشد أعداء تركيا، ما أدى إلى توتر مستمر في بنية العلاقات التركية الفرنسية.
وتحت عنوان "قصر الإليزيه يحافظ على العلاقات القوية مع أكراد سوريا"، نشرت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المعنية بشؤون الاستخبارات، تقريرا في 10 مارس/ آذار 2021، عن الروابط بين التنظيمات الكردية المسلحة في سوريا، والدولة الفرنسية بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون.
المجلة قالت: إن "قصر الإليزيه يواصل إدارة العلاقات الفرنسية بشكل مباشر مع الإدارة ذات الأغلبية الكردية في شمالي سوريا (بينها قوات سوريا الديمقراطية - قسد)، وتتدخل باريس من خلال مركز الدعم والأزمات التابع لوزارة الخارجية".
وفي 29 مارس/ آذار 2018، استقبل ماكرون وفدا من منظمة "بي كا كا/ ي ب ج"، ثم نشرت الرئاسة بيانا قالت فيه: إن الرئيس "يرغب في إقامة حوار بين قوات سوريا الديمقراطية (ذات الأغلبية الكردية) وتركيا، بدعم من فرنسا والمجتمع الدولي".
التورط الفرنسي في سوريا تجلت أبعاده في 25 ديسمبر/ كانون الأول 2018، عندما أعلنت واشنطن سحب 2000 عسكري أميركي منتشرين في سوريا يقاتلون إلى جانب تحالف عربي كردي تهيمن عليه وحدات حماية الشعب الكردية.
هنا أعرب ماكرون عن "أسفه العميق" للانسحاب الأميركي، وشدد على أن بلاده تبقى منخرطة في التحالف الدولي.
التناقضات الفرنسية لم تقف عند ذلك الحد، إذ أعلن مدير جهاز مكافحة تمويل الإرهاب في وزارة الداخلية الفرنسية "برونو دال"، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2017، عن خطة الجهاز لـ"رصد وتتبع ممولي تنظيم الدولة".
وقال دال حينها: إن "هناك رهانا إستراتيجيا حقيقيا مع تشظي تنظيم الدولة الإرهابي، يتمثل في تحديد أماكن جامعي الأموال الجدد لمحاولة تتبع مواقع انتشار التنظيم وأفراده مستقبلا".
المصادر
- الأناضول تحصل على وثائق تظهر علم باريس بتمويل شركة فرنسية لـ "داعش"
- مذكرة سرية تكشف علم فرنسا باتفاق "لافارج" و "داعش"
- ضربات سوريا.. فرنسا تطلق للمرة الأولى صواريخ بحرية عابرة
- ضابط فرنسي كبير يواجه عقوبة بعد انتقاد أساليب الغرب ضد تنظيم الدولة بسوريا
- فرنسا تحدد 200 جهة خفية تمول داعش
- القضاء الفرنسي يرفض طعن شركة لافارج لإسقاط تهمة "التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية" بسوريا عنها