عن بعض تجارب الحكم العسكري

هناك العديد من الدراسات التي تتحدث عن العلاقات المدنية العسكرية بشكل عام، وعن كيف تم حل هذا التشابك والتعقيدات حول العالم حتى تم الوصول للصيغة الحالية التي تحكم معظم بلدان العالم المتقدم، وللأسف القليل من الدراسات تحاول تحليل تلك الأمور في العالم العربي، ولذلك فمن النادر أن نجد دراسة مستفيضة عن هذا الأمر في الوطن العربي عموما أو في مصر تحديدا، وإن وُجدت فستكون مدفونة في إحدى المكتبات الجامعية أو ضمن تقارير أحد المراكز البحثية العربية المغضوب عليها، ولا يجرؤ أحد على الحديث عنها بالتأكيد في ظل تأميم الإعلام.
دراسة قد تكون مفيدة في هذا الأمر صدرت منذ ٣٠ عاما، نُشرت في مجلة السياسة الدولية الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، وكانت بعنوان (نهاية النظم العسكرية والانتقال إلى الديمقراطية في العالم الثالث)، وتتحدث عن شرعية النظام العسكري وتبرير إطالة مدة الحكم. فلقد جرت العادة في دول العالم الثالث تحت النظام العسكري أو الشبه عسكري على المزج بين هدفين أساسيين كأساس لشرعية الحكم، وهما الحفاظ على ما يسمى الأمن القومي من وجهة نظر العسكريين وكذلك تحسين الحالة الاقتصادية في أسرع وقت.
وتكون تلك عادة هي الذريعة التي تم الاستيلاء بها على السلطة بعد فشل القوى السياسية من المدنيين في إدارة الدولة، وتكون هي نفس الذريعة عادة التي يتم إطلاقها من أجل التمديد والبقاء لفترة أطول في السلطة، بالإضافة لذرائع أخرى مثل "الحفاظ على المكتسبات" أو ضرورة الاستمرار لإنهاء المشروعات التي هي قيد التقدم، وبناء على ذلك تطول فترة الحكم وربما تمتد لعشرات السنين، ويتوازى ذلك مع إجراءات قمعية متزايدة, ولكن تصبح شرعية هذه الأنظمة هي درجة تحقيق وعوده.
وفي معظم تجارب الانقلابات العسكرية في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، تبدأ الأنظمة العسكرية أو السلطوية شبه العسكرية بإغلاق البيئة السياسية واتخاذ تدابير قمعية ضد من يتم اعتبارهم -من وجهة نظر المؤسسات العسكرية- يهددون استقرار الساحة الداخلية. فتكثر حالات المفقودين وتعذيب المحتجزين، وعادة يتم إلغاء الأحزاب أو تهميشها على الأقل، بالإضافة للرقابة الصارمة على الإعلام والتحكم في السلطة القضائية وقد يتم اللجوء إلى بعض الإجراءات الديمقراطية الشكلية لتقليل الانتقادات الدولية أو لضمان استمرار المساعدات الأمريكية.
وبشكل عام تعتقد أنظمة الحكم السلطوية ذات الطابع العسكري أن إغلاق المجال السياسي أو المجال العام هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار ولمحاولة بلوغ معدلات النمو الموعود بها، لذلك يستعاض بالحرمان من الحقوق السياسية بإنجاز تقدم اقتصادي، ولو سريع لمحاولة ضمان عدم غضب الجماهير لوقت أطول، فهي عادة تصل للسلطة بعد انقلابات عسكرية نتيجة أزمة سياسية أو هزيمة عسكرية، فتكون إعادة الاستقرار هي الذريعة الرئيسية، ولذلك يكون هناك تأييد شعبي في بداية الأمر للانقلاب العسكري أملا في التغيير وأملا في الاستقرار والحفاظ على الأمن.
ولكن مع الفشل المتتالي في تحقق الوعود التي قامت ببناء شرعيتها عليها مثل النمو الاقتصادي والرخاء والاستقرار والأمن وفرض النظام وتحسين مستوى المعيشة، تبدأ الجماهير مرة أخرى في الاعتراض أو التظاهر وتنظيم الإضرابات. وعادة يكون رد فعل السلطة العسكرية مزيد من القمع والاغتيالات للمعارضين وأصحاب الرأي، مما يزيد من حالة الغليان وعدم الاستقرار، فعدم وجود قنوات فعالة تتيح حرية التعبير عن الرأي أو وسائل لاستيعاب المطالب والرد عليها يؤدي إلى ضعف الحكم السلطوي/ العسكري، وإلى لجوء بعض الفئات أو الفصائل المعترضة إلى وسائل أخرى بعيدا عن الوسائل السليمة أو بعيدا عن الحياة السياسية التمثيلية، مما قد يؤدى إلى الدخول في دوامة العنف أو الاضطرابات لفترة طويلة، وهو ما تحاول الأنظمة العسكرية استغلاله وتسويقه كتهديد جديد يستلزم البقاء في السلطة من أجل تحقيق الاستقرار.
وتقع معظم الأنظمة السلطوية/ العسكرية في خطأ البحث عن نمو اقتصادي سريع من أجل تدعيم شرعيتها ولو بتحقيق أي نجاح اقتصادي من أجل تهدئة الجماهير وإخماد مصادر المعارضة، وهو ما يتزامن مع التوسع في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، ولتحقيق معدلات نمو اقتصادي في فترة قصيرة قد تلجأ الأنظمة العسكرية إلى تكثيف الاعتماد على التمويل الخارجي والقروض والمنح لتسهيل الاستيراد اللازم للتصنيع والبناء، أو تلجأ إلى استيراد السلع الرأسمالية ونصف المصنعة وإقامة مشروعات سياحية واستهلاكية، مع إهمال مقومات التنمية مثل التصنيع والتعليم والبحث العلمي، وبالطبع يتم تجاهل جوهر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فتزداد الفجوة بين الطبقات وتزداد معاناة الشعوب.
ولكن على المدى المتوسط تؤدي تلك الاجراءات إلى تراكم الديون والحد من القدرة الاستيعابية للسوق المحلية، ويصبح الأمر كارثيا عند حدوث هزة اقتصادية عالمية أو فقاعة عقارية أو أزمة اقتصادية، فينهار النظام الاقتصادي سريعا، ثم تبدأ منظومة الحكم في التفكك خصوصا مع تصاعد الاحتجاج الشعبي، الذي تقابله الأنظمة بقمع مفرط وأساليب دموية مما قد يؤدي لتصاعده مرة أخرى بشكل يصعب السيطرة عليه. وقد يؤدي ذلك إلى حدوث انقلاب جديد تهلل له الجماهير مرة أخرى أملا في الاستقرار، وفي معظم تجارب أمريكا الجنوبية لجأت الأنظمة العسكرية للتفاوض مع القوى السياسية والاحتجاجية بهدف الخروج الآمن أو اقتسام السلطة والحفاظ على بعض المكتسبات والامتيازات للطبقة العسكرية.
في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وأوروجواي، شاهدنا مراحل انتقالية بعد عشرات السنين من الانقلابات العسكرية والانقلابات المضادة، شهدت المراحل الانتقالية اتفاقات لاقتسام السلطة أو اتفاقيات للخروج الآمن ومحاولة ضمان عدم محاسبة رموز النظم العسكرية على الجرائم التي ارتكبوها ضد الإنسانية، أو معاهدات عدالة انتقالية بالاعتراف مقابل العفو، ولكن في آخر المطاف تمت محاسبة المجرمين ولو بعد حين.
وأصبح هناك رؤساء للجمهورية ووزراء وأعضاء برلمان تعرضوا للسجن والتعذيب في فترات الحكم العسكري، ولكن في معظم التجارب كان هناك عامل مشترك هام، ألا وهو وجود قوى سياسية منظمة وذات مقدار عال من النضج تستطيع الاتفاق على الإطار الجامع والبرنامج المشترك وتستطيع العمل على الحد الأدني من التوافق، فبدون تلك القوى لن يكون هناك بناء تراكمي، ولن يكون هناك من يقطف الثمار عندما يأتي الأوان.