التدافع محرك النهضة
يمكن تشبيه المجتمع بجسد الإنسان؛ من حيث وجود أعضاء يقوم كل منها بوظائف تكمل وظائف الأعضاء الأخرى، وبالتالي فإن استقرار المجتمع يعتمد على قيام كل طرف من أطرافه بواجباته، وهذا ما يحصل عادة في الدول المتقدمة اليوم.
فالسلطة التنفيذية تأتي بإرادة المجتمع، فتكون ممثلة له وخاضعة لإرادته ولديها صلاحيات تقوم بها، ولكنها مقيدة بالدستور ومراقبة من قبل بقية السلطات، التي من بينها المجالس التشريعة المنتخبة، التي تقوم بدور التشريع والرقابة على الخطوط العريضة للسياسات، مع ترك التفاصيل للسلطة التنفيذية.
وهناك السلطة القضائية المستقلة إلى حد كبير عن السلطتين التنفيذية والتشريعة، ومهمتها حكم العلاقة بين مؤسسات الدولة وبينها وبين المجتمع؛ حتى لا يحصل تجاوز من قبل أي طرف على طرف آخر، سواء كان فرد أو مؤسسة.
ولا تتوقف المدافعة بين أطراف المجتمعات المتقدمة، بين المؤسسات الحكومية، وإنما تتعداها إلى مؤسستيين أخرتين، هما الإعلام والمجتمع المدني، فالإعلام عندما يكون مستقلا يقوم بدور رقابي هام؛ فيحقق في السياسات والأحداث، ويكشف المخفي منها، ويزوّد المواطن بالمعلومات الدقيقية التي تمكنه من ممارسة دوره في مراقبة الحكومة، سواء عبر الانتخابات أو السبل الأخرى، كاللجوء إلى القضاء أو العمل عبر مؤسسات المجتمع المدني.
أخيرا هناك المجتمع المدني، الذي يملأ الفراغ، في الفضاء الواقع بين مؤسسات الدولة والأسرة، ويشتمل على طبقة رجال الأعمال المنتجة والمستقلة عن السلطة والمؤسسات الاجتماعية والأحزاب وهيئات العمل الخيري، والأندية الرياضية وغيرها، ومهمة مؤسسات المجتمع المدني صقل مواهب المواطن، وتعويده على التعاون الأفقي، وتقوية روابط أبناء المجتمع وتمكينهم من القيام بنشاطات مختلفة ومستقلة عن الدولة، كما أنّ تعاون هذه المؤسسات يشكّل قوة؛ يمكن استخدامها للضغط على السلطة التنفيذية إذا ظهر منها تقصير في سياساتها بأشكالها.
هذه الحيوية في عمل كل مؤسسات المجتمع تجعل الحكومة جزءا من المجتمع وخاضعة لإرادته ومراقبته، فلا يحصل اختطاف لقرارات المجتمع الإستراتيجية، وبالتالي يظل المجتمع في حالة توزان وازدهار، ولا تحصل هزات كارثية كالانقلابات أو الحروب الطائفية، أو بقية القلاقل إلا في حالاات نادرة؛ لأن الكل يشعر بأنه طرف في اللعبة.
وهذا المجتمع تتكامل فيه الأدوار وتتدافع فيه المؤسسات، وتتقلص فيه فرص الفساد بأشكاله، مصداقا لقوله تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ"، وهو ليس مجتمعا مثاليا، لكنه مجتمع سليم وقادر على تعديل مساره، وتصحيح أخطائه، والسير نحو الوجهة التي تخدم مصالح كافة مكوناته.
الآن لو انتقلنا إلى واقع مجتمعاتنا العربية، لأدركنا أن غياب هذه المؤسسات بصورتها الفاعلة وليست الشكلية؛ هو سبب غياب هذا التدافع، وبالتالي اختزال المجتمع في السلطة التنفيذية، الأمر الذي يظهر فيه المجتمع وكأنه جسد مشوّه وجامد، يمثل فيه الرأس الجزء الأكبر من الجسم، بينما تضمر بقية مكونات المجتمع.
فالسلطة التنفيذية عادة مغتصبة من قبل أسرة أو طائفة أو طغمة عسكرية، لم تأت عبر انتخابات نزيهة وتنافسية؛ الأمر الذي يجعل هدفها الأول ليس البناء، وإنما البقاء في السلطة فتسخّر نفوذها وثروة المجتمع لهذا الهدف، وتظل تتوجس من المجتمع الذي لم تنبثق منه، وتحاول السيطرة عليه بدلا من مشاركته في السير قدما.
وهكذا تكون السلطة التنفيذية فاقدة للشرعية، الأمر الذي يجعلها تبحث عنها في استخدام وسائل البطش، وشراء الولاءات والتعاون مع الأجنبي؛ فتصبح المجالس التشريعة إن وجدت واجهات للسلطة التنفيذية، لتصدق على قراراتها بدلا من أن تمحصها.
وتكون السلطة القضائية أداة بطش لمعاقبة المعارضين وفاقدة للعدالة، ويصبح الإعلام الذي قد يكون مملوكا للسلطة التنفيذية أو لمن يدور في فلكها من رجال أعمال عبارة عن أبواق للحكومة، يجمّل عثراتها ويبرر تجاوزاتها بدلا من أن يكون سلطة رابعة، تكشف للمواطن عيوب السلطة التنفيذية.
أما المجتمع المدني، فإما أن يكون غير موجود، أو يعمل تحت مظلة الحكومة، فيفقد استقلاليته وقدرته على القيام بدوره في إحداث الترابط الأفقي بين مكونات المجتمع، ويظل هذا المجتمع قائما على العلاقة الرأسية بين الحكومة والشعب، بينما يفتقر الشعب إلى الروابط الأفقية التي تمكنه من أن ينظّم نفسه، ويوحّد طاقاته، ويشكّل قوة ضاغطة على السلطة.
هذه الهيمنة للسلطة التنفيذية في مجتمعاتنا، هي التي جعلت مجتمعاتنا ومنذ فترة طويلة معتمدة على الحكومة ومعطلة لطاقاتها، ونتيجة لذلك كان أداء هذه الدول تنمويا وأمنيا في تراجع، فلا هي حررت مقدّساتها، ولا هي نوّعت هياكلها الاقتصادية، ولا هي وحّدت كياناتها لترفع من فرص التنمية والأمن معها، في ظل عالم تحكمه الكيانات الكبيرة.
وإنما جعلت من منطقتنا أرضا مستباحة لنهب الثروات وإراقة الدماء وسيطرة الأعداء، وهذا أمر ليس مستغربا؛ لأن جسد الأمة هو كجسد الإنسان إذا فقد مناعته انقضّت عليه الأمراض، وهذا هو حالنا اليوم، فقد تعطلت مكونات مجتمعاتنا؛ فانقضّ علينا الأعداء من كل حدب وصوب.
والتحدي الذي يواجهنا اليوم، يتمثل في إحياء مكونات مجتمعاتنا من حكومات منتخبة، ومجالس تشريعية تمارس أدوارا رقابية وتشريعية على السلطة التنفيذية، وقضاء مستقل عن تدخلات الحاكم، وإعلام يكشف الواقع كما هو ويرتقي بوعي المواطن، ومجتمع مدني يملأ الفضاء الواقع بين الأسرة والدولة بنشاطات متنوعة ومنتجة، ويشكّل قوة ضاغظة على السلطة، وهكذا ستبدأ مجتمعاتنا باستعادة عافيتها، والسير قدما على طريق النهضة بمشيئة الله،
ونود أن نختم قولنا بحقيقية تاريخية، وهي أنّ المدافعة بين مكونات المجتمع هي الطريقة التي انتقلت بها الدول الأوروبية من نظم استبدادية إلى نظم منفتحة على شعوبها، فالمدافعة هي آلية انتقال من الاستبداد إلى الحرية، كما أنها وسيلة الإبقاء على الحرية والازدهار.