جمال عبدالهادي.. علّامة في التاريخ وهب حياته لفلسطين ورحل متعلقا بقضيتها
تبنى الدكتور جمال عبد الهادي، رؤية المقاومة الإسلامية وتشبع بها ونظر لها
"صفحات.. ناصعات.. مشرقات.. مجد يروح وغيره بالمجد آت.. واسأل سنابك خيل عاديات.. والقدس تشهد بالبطولة والثبات.. واسأل عن الأمجاد دجلة والفرات.. واسأل صلاح الدين أين المكرمات".
كان هذا تتر برنامج "الطريق إلى بيت المقدس" الذي قدمه العالم الإسلامي الراحل الدكتور جمال عبد الهادي على مدار سنوات عبر قناة "الناس" الفضائية.
البرنامج الذي كان يحظى بمتابعات واسعة من مختلف جماهير العالم الإسلامي، جزء من مسيرة العالم المصري الذي قضى حياته دفاعا عن فلسطين وبيت المقدس، وحرص على إصدار سلاسل علمية ومؤلفات خاصة بتاريخ القضية وحاضرها.
وفي 14 مارس/ آذار 2024، وخلال شهر رمضان المبارك، رحل عبد الهادي عن عالمنا عن عمر ناهز الـ87 عاما بعيدا عن وطنه، مخلفا وراءه سيرة علمية وعملية فذة، تميزت بمواقف تجاوزت مجرد كونه مؤرخا أكاديميا موسوعيا، إلى رجل آثر أن يواجه الأنظمة المستبدة من أجل مبادئه وقيمه.
في سطور
هو جمال عبد الهادي مسعود، ولد في مدينة ملوي بمحافظة المنيا (صعيد مصر)، في 19 فبراير/ شباط 1937، وأتم حفظ القرآن الكريم في صغره، والتحق بالتعليم الابتدائي وتدرج حتى حصل على الثانوية العامة.
والتحق بعدها بكلية الآداب جامعة القاهرة، ليحصل على درجة الليسانس عام 1958، بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف.
وفي عام 1972 حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة والآداب من كلية الآداب بجامعة بروكسل في بلجيكا.
اتجه الراحل بعد ذلك للعمل في السعودية، في وقت كانت تستقطب فيه علماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي خاصة مصر، لتأسيس الأقسام العلمية ودفع عجلة التعليم والجامعات حديثة النشأة.
وبالفعل عمل عبدالهادي في هيئة التدريس بقسم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبدالعزيز في جدة من 1973 إلى 1981.
بعدها أشرف على التدريس بقسم التاريخ الإسلامي بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى بمكة المكرمة من 1981 إلى 1987.
نشاطه الدعوي
وانتمى الدكتور جمال عبدالهادي خلال فترة شبابه ولبقية سنوات حياته، فكريا إلى جماعة الإخوان المسلمين، حتى غدا أحد رموزها.
وبعد عودته إلى مصر نشط بقوة في مجال الدعوة، وكانت دروسه في مسجد "التوحيد" بمنطقة غمرة في القاهرة يشهدها الآلاف، حتى قرر الأمن إيقافها بسبب تصاعد شعبيته.
وكان الشيخ خطيبا مفوها يمتلك أدوات الخطابة من اللغة الرصينة المنضبطة، والصوت القوي، والعلم الغزير.
وحرص على رفع الوعي العام للمجتمع، خاصة تعريفه بالتاريخ الإسلامي والارتباط الوثيق بين شعوب العالم الإسلامي.
كما اهتم بالدفاع عن قضايا العالم الإسلامي وخاصة فلسطين لأنها قضية العالم الإسلامي المحورية الأولى.
ولطالما قال: "إن قضية بيت المقدس من ملحقات العقائد الإسلامية، وأن القدس وقف إسلامي وتحريرها ونصرة أهلها ودفع العدوان الواقع عليها فريضة شرعية وضرورة حياتية على كل مسلم".
إسهاماته
برز الشيخ بقوة خلال حملة الدفاع عن مسلمي البوسنة والهرسك (1995)، وحض زعماء العالم الإسلامي على التصدي لمذابح الصرب ضد المسلمين هناك، خاصة مذبحة "سربرنيتسا" التي راح ضحيتها نحو 8 آلاف مدني مسلم.
كما عرف بدفاعه عن قضايا الأقليات المسلمة في الصين، وآسيا الوسطى، والبلقان وأوروبا، حيث كان يدعو في محاضراته وندواته إلى نصرة الشعوب والأقليات الإسلامية في أنحاء العالم.
وللدكتور جمال عبدالهادي أكثر من 5 آلاف محاضرة نشر بعضها على شبكة الإنترنت ونشر بعضها في كتب ومؤلفات.
ومن أبرز مؤلفاته: "أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ، والطريق إلى بيت المقدس، وتاريخ الدولة العثمانية، وفتح مصر، وجزيرة العرب، وإفريقيا التي يراد لها أن تموت جوعا".
ومن القضايا التي حملها العالم المصري، كشف ما يجرى في مجال التعليم تحت زعم "التطوير"، وشدد على أن الغاية الأساسية لتلك العملية هي طمس هوية الأمة وحرمانها من تاريخها الإسلامي ولغتها العربية وثقافتها الشرعية.
وخلال سنوات ما قبل ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 حرص عبدالهادي على إلقاء الندوات في كليات عديدة بالجامعات المصرية.
كما ألقى محاضرات بالمؤتمرات التي كانت تقيمها النقابات المهنية، مثل "الأطباء والمهندسين والعلميين والمعلمين والصيادلة والزراعيين"، بجميع محافظات مصر تضامنا مع شعوب فلسطين والشيشان وكوسوفو والبوسنة والهرسك وألبانيا وغيرهم.
كما كانت له دروس وخطب جمعة في أغلب مساجد القاهرة الشهيرة وبقية المحافظات.
آرائه وأفكاره
تبنى الدكتور جمال عبدالهادي، رؤية المقاومة الإسلامية وتشبع بها ونظر لها. ومما قاله في هذا الشأن أن "فلسطين هي قضية العالم الإسلامي المحورية وهي رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوأميركي".
وأضاف في حديث عام 2002 لموقع "صيد الخاطر" المحلي المصري، "ما نتئت الجراحات في المنطقة إلا عندما تم وضع اليد على فلسطين، فضلا عن أنها الأرض المقدسة الحرام التي بارك الله فيها والتي بتحريرها وبكسر العدوان الصهيوني عليها سيتم كسر الحملة الصهيوأميركية".
وأتبع: "المدرك الأول لهذا المقاومة الإسلامية في حماس، التي وضعت في ميثاقها أنها ستعمل على وأد المشروع الصهيوني في فلسطين حتى لا يتمدد جسده في بقية أنحاء العالم الإسلامي، وهذا وعي مبكر موجود لدى الحركة الإسلامية في فلسطين، خلاف من تقوقعوا في مشاكلهم وصموا الأذان عما يجرى حولهم".
ومن الرسائل التي وجهها لقادة العمل في الأرض المحتلة، أنه "لابد للعمل المقاوم من مسارين، مسار العمل المقاوم والمسار السياسي ولكن تحت سلطة واحدة، وقيادة واحدة".
وأتبع: "وأيضا التمسك بثوابت معينة لا تتخطاها السلطة ومن أهمها عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وعدم التنازل عن القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، ولا تنازل عن حق العودة وبالمجمل كل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني".
ومما تنبأ به الراحل أن إثيوبيا ستأخذ مواقف متقدمة في سد النهضة وقضية النيل لتحجيم مصر، وكذلك تحدث عن سعي الغرب للسيطرة على منطقة القرن الإفريقي والتحكم بالمضايق المائية.
نشاطه السياسي
آمن الدكتور جمال عبدالهادي تماما بالثورة المصرية في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وشارك فيها لإسقاط نظام مبارك بعد حكم دام 30 سنة.
وبعد عام من الثورة، تحديدا في 24 يناير 2012، صرح لبرنامج على قناة "الحكمة" الفضائية، قائلا: "الثورة المصرية مازالت مستمرة ولن تهدأ حتى يتم القصاص لدماء الشهداء ومعاقبة المفسدين من النظام السابق".
وأشار حينها عبدالهادى إلى أن الكثير من المصريين يعقدون آمالا كثيرة على البرلمان، لأنه أول برلمان للثورة المصرية فى ظل انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة.
ولفت إلى ضرورة التغيير والتطهير فى جميع المؤسسات الحكومية والقضاء على بذور النظام السابق، خاصة في وزارة الداخلية.
كما طالب عبدالهادي بضرورة منع التدخل الأجنبي في الشؤون المصرية عبر وقف ومنع المنح والتمويل الأجنبي والمعونات.
ودعا بشكل خاص إلى التخطيط والتعمير والتركيز على سيناء في هذه المرحلة، ورأى أن السيطرة على سيناء ذريعة ومستهدف من مستهدفات المخططات الصهيونية في مصر.
ضد الانقلاب
وناهض جمال عبدالهادي، الانقلاب العسكري الذي وقع بمصر يوم 3 يوليو/ تموز 2013، بقيادة عبد الفتاح السيسي، على حكم الرئيس المنتخب ديمقراطيا الدكتور محمد مرسي.
ومنذ اليوم الأول كان عبدالهادي في طليعة المعتصمين بميدان رابعة العدوية في القاهرة، وألقى خطابات حماسية لمواجهة الانقلاب العسكري، الذي عده مؤامرة على مصر.
وشهد بنفسه يوم فض الاعتصام في 14 أغسطس/ آب 2013، والذي راح ضحيته مئات من المدنيين.
وكان مما قاله في تلك الفترة: "الإسلاميون لم يعوا عبر تاريخهم النضالي كم المخططات الغربية التي حيكت من قبل المستعمر قبل خروجه من البلدان العربية أو الإسلامية".
وأضاف: "دائما الإسلاميون يعدون خطة اليوم وليس خطة للغد، ولم ينتبهوا للطابور الخامس الذي صنعه الغرب لسرقة الثورة وليصبحوا بعدها كما قلت نزلاء للمعتقلات والسجون".
بطبيعة الحال لم يسلم عبدالهادي من بطش نظام السيسي، حيث تعرض لمحاولة اعتقال بعد الانقلاب، وتمت مطاردته، لكنه استطاع الخروج من مصر هاربا من بطش الحكم العسكري.
وفي 5 يوليو/تموز 2014، حكم عليه (غيابيا) من قبل القضاء المصري التابع لمنظومة السيسي بالإعدام شنقا.