ما علاقة النظام المصري بإفساد الذوق الفني العام ونشر الإسفاف؟
من "أنت عمري" و"كامل الأوصاف"، انحدرت الأغنية المصرية إلى "أنا حبيتك وجرحتيني" و"تبقي معدية" أو ما يعرف بأغاني المهرجانات، التي تجاوزت حدود مصر وانتشرت في أرجاء العالم العربي. إلا أن هذه الأغاني أحدثت الكثير من الجدل واتهمت بـ"إفساد الذوق العام".
التهمة وصلت إلى البرلمان، إذ طالب نواب لجنة الثقافة والإعلام من مجلس النواب بحظر هذه الأغاني ومنعها، بسبب "الإسفاف والابتذال والتأثير على المجتمع".
وقبل ذلك، قررت نقابة المهن الموسيقية منع التعامل مع مغنيي أغاني المهرجانات، وعدم منح تصاريح، وإبلاغ الجهات الأمنية بمنع تنظيم وإقامة حفلات هؤلاء المغنيين.
ويجرم قانون اتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية ممارسة أي عمل يتعلق بالموسيقى من دون عضوية أو تصريح، وإلا أصبح الشخص مهددا بالحبس مدة تصل إلى 3 شهور، وغرامة تصل إلى 20 ألف جنيه (1200 دولار أمريكي)، وفقا للمادة الخامسة من القانون المنظم.
الموسيقار المصري الشهير حلمي بكر اعتبر هذا النوع من الأغاني: "كارثة وتدمير للذوق العام"، مشددا على أنها ليست لها علاقة بالغناء الشعبي، وذهب إلى حد وصفها بـ"الأخطر من الفكر الإرهابي".
احتياج إنساني
تقول دراسة أجراها المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية، إنه بعد ثورة 25 يناير في مصر خرج من العشوائيات من أطلق عليهم "المؤديين"، مثل "عمرو حاحا" و"أوكا وأورتيجا" وغيرهم الذين غنوا ما يسمى "أغانى المهرجانات الشعبية"، التي كانت موجودة قبل الثورة ولكنها انتشرت معها.
لقيت هذه الأغاني رفضا واسعا من قبل المصريين فور ظهورها، واعتبروها تدن في مستوى الذوق الفني، لكن أغاني المهرجانات انتصرت في هذه "المعركة"، حسب وصف الدراسة، إذ انتشرت هذه الأغاني حتى بين أوساط المثقفين التي هاجمتها في البداية، مع أنهم يظهرون عكس ذلك حفاظا على مكانتهم.
وحللت الباحثة، التي أجرت الدراسة، بأن 25 يناير، أحدثت ثورة على كل المستويات، ولأن الفن انعكاس للمجتمع فمن الممكن القول إن التغيير وصل إلى جميع الطبقات وجعلها تعبر عما ترغب به وما ترفضه.
وفي دراسة بعنوان "الأغنية الشعبية بين الدراسات الشرقية والغربية"، قال الباحث: إن الأغاني الشعبية لم تكن قصرا على الوطن العربي، بل هي منتشرة في جميع أنحاء العالم، حتى رأى الباحثون أن الأغنية الشعبية تعبير عن صوت الشعب، وبالتالي لا بد من دراستها لمعرفة ما يدور فى أذهان الطبقات التي لا يسمع لها صوت.
وتنتشر الأغاني الشعبية في جميع أقاليم مصر منذ سنوات عديدة، إذ أن الأغاني الشعبية هي تعبير عن ما أسماه الباحث "الاحتياج الإنساني"، بمعنى أن هناك طبقات ترغب في أن تعبر عن ما تشعر به بثقافتها ولغتها، ووجدت أن هذه الأغاني قادرة على تحقيق ذلك بمهارة.
وقال الباحث: إن الأغنية تستطيع أن تقرب المواطنين من بعضهم إذ أنها تعبر عن شعور معين تشعر به طبقة ما، فينضم لسماع هذه الأغنية طبقات أخرى تجد نفسها أنها تشعر بنفس الإحساس الذى تردده الأغنية. وصنفت الدراسة الأغاني الشعبية أنها "أغان جماعية"، إذ أنها تنبع من عاطفة عامة سواء كانت دينية أو اجتماعية، كما أنها تختلف من بيئة إلى أخرى.
أداة تمرد
بعنوان "ضجيج أم صوت المهمشين: موسيقى المهرجانات موجة جديدة من تمرد المصريين"، رأى أحد الباحثين أن موسيقى المهرجانات جديرة بالدراسة، إذ لم تعد منتشرة في مصر فقط، إنما أصبح المؤدون لها لهم جمهور كبير في باقي الدول العربية، بل نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريرا أكدت فيه أن هذه الأغاني حققت نسبة مشاهدة عالية للغاية، وبالتالي أصبح نجومها يتمتعون بشهرة كبيرة.
فيما ربطت وكالة "رويترز" انتشار أغاني المهرجانات الشعبية برخص تكلفتها، إذ أنها لا تدخل في دوائر الإنتاج المتعارف عليها، خصوصا وأن الدولة بدأت ترفع يديها عن الفن والثقافة.
اكتسب مغنو أغاني المهرجانات شرعية داخل المجتمع، ويرون أنهم قاموا بعمل إيجابي بما أن المجتمع تقبلهم، وأصبح يردد أغانيهم الأغنياء والفقراء، وبالتالى أصبح هناك اندماج بين الطبقتين عند سماع هذه الأغاني، لكن توصل الباحث أنه من الخطأ أن يتم تصنيف مؤدي أغاني المهرجانات تصنيفا سياسيا واحدا، فهم كأي مجموعة متنوعة تحمل انتماءات ثقافية مختلفة.
هذا الاختلاف لا ينفي كون أغاني المهرجانات الشعبية ترجمة للواقع الذي يعيشه المصريون؛ من سوء الأحوال الاقتصادية والمعاناة من التهميش، "فكل ذلك ترجم على شكل ضجيج في أغاني المهرجانات الشعبية".
منذ أواخر حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، أصبحت ظروف المجتمع المصري غاية في السوء، حيث تجاوز المجتمع اقترابه من الانهيار إلى الانفجار، بحسب الدراسة، وذلك من كثرة المشاكل التي يعاني منها المواطنون المصريون، فقد ازدادت الفجوة بين الطبقات فاختفت الطبقة الوسطى التي هى أساس استقرار المجتمع، ما أثر أيضا على القيم بين الطبقات الاجتماعية، إذ ازداد الغضب بينهم ومن هنا ازداد العنف وبدأت القيم الاجتماعية بالتغير إلى الأسوء.
الفساد المتفشي والظروف الاجتماعية السيئة والتضييق من الناحية السياسية زاد من إحباط الشعب، وبشكل منطقي -بما أن الفن مرآة المجتمع- ظهرت الأفلام المعبرة عن هذا الواقع، وأيضا أغاني المهرجانات الشعبية. وقال كاتب الكلمات ناصر الجيل، في تصريح صحفي: إن "أغاني المهرجانات الشعبية ظهرت بالأساس نتيجة تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في مصر بعد أحداث 25 يناير و30 يونيو".
اضطراب سياسي
إذا كان أفلاطون قد ذكر في كتابه "الجمهورية" بأن حدوث خلل أو تجديد في الأنماط الموسيقية لعصر ما، من شأنه أن يُخل بالنظام السياسي العام للدولة، فإن العكس هو ما حدث في مصر.
ربطت دراسة المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية ظهور أغاني المهرجانات بعدم الاستقرار السياسي، اعتمادا على رأي الفيلسوف اليوناني سٌقراط الذي قال إن نشوء السلطة المُستبدة يؤدي إلى تدهور الذوق الموسيقي.
وفي الوقت الذي حلل فيه المتخصصون موسيقى "الهيب هوب" كونها تعبير عن ثورة الأمريكيين الأفارقة، فإن استبداد النظام الحاكم في مصر هو ما أفرز أغاني المهرجانات.
وأظهرت عالمة الاجتماع الأمريكية المتخصصة في الدراسات الثقافية، كارين آ. كيرولو، ذلك بقولها: إن الإبداع الموسيقي يستجيب –بطبيعة الحال- للأحداث التي يمر منها المجتمع، وأن المجتمعات التي تمر بأحداث سياسية دراماتيكية، تميل إلى إبداع أصناف موسيقية تُضمِّن فيها رسائل سياسية منوطة بالسياق أو الواقع المعاش.
تحمل الأنغام الموسيقية التي يجري الاستماع إليها، في عديد من الأحيان، مضامين سياسية واجتماعية، تترك انبطاعا وربما أثرا في بنية الفرد النفسية لاحقا.
وصنفت الدراسة، عدم الاستقرار السياسي على أنه من أكثر المفاهيم خطورة وشيوعا فى البلدان، فمن الممكن أن يقتصر على عدم الاستقرار الحكومي، أى أنه من الممكن أن تعاني بلد من عدم الاستقرار السياسي نتيجة تغيرات متتالية في السلطة الحاكمة، وأيضا من الممكن أن يتسع ليشمل التغيرات الحادثة في الإطار المؤسسي للدولة ككل، وقد يؤدي اتساعه إلى انهيار الدوله بأكملها.
ولخصت الدراسة أهم أبعاد عدم الاستقرار السياسي في:
- سيادة العنف في البلاد.
- عدم قدرة النظام على الاستجابة للمطالب الداخلية وبالتالي يفقد شرعيته.
- عدم الالتزام بالقواعد الدستورية والقانونية وبالتالى يعاني المجتمع من الفوضى.
سر التسمية
جاء اسم "المهرجانات الشعبية" من مغنييها، إذ أن لحنها معتمد على إثارة البهجة، بحسب أحمد الشورى من المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية.
وفي الثقافة المصرية فإن أقصى درجات البهجة والسعادة هو مسمى "المهرجان"، ونقل الباحث عن أحد مؤديي هذا اللون الغنائي، قوله: إن التسمية جاءت بتلقائية في أحد الأفراح عندما قال أحدهم بالعامية المصرية "ده أنا هعملك مهرجان".
وقال أحد مؤسسي اللون الغنائي: إنها سميت كذلك لأنه من الممكن أن يشارك أكثر من مطرب في أغنية واحدة، بالإضافة إلى أن موسيقى المهرجانات تتيح دمج موسيقى الراب مع الموسيقى الشعبية.
واعتبر كاتب الكلمات ناصر الجيل، الأمر: "طبيعيا للغاية، فقد ظهر أحمد عدوية بعد نكسة 1967، وبدأ النقاد أيضا بالنظر إليه بتهكم، بل إنهم كانوا يصنفون أغنيته (سلامتها أم حسن) تدهورا في الذوق الفني وكذلك أغنية "السح الدح أمبو"، إذ رأوا أن هذه الأغاني ليس لها معنى أو أهمية، واعتبروها تدهورا للأغنية الشعبية، ثم اقتنعوا بأنه يصف معاناة الشعب بلغتهم البسيطة إلى أن أصبح عدوية من أعمدة الأغنية الشعبية.
لكن الهزيمة الحقيقية التي شهدها المجتمع المصري، حسب الكاتب، هي ظهور العشوائيات فأصبح هناك ترد في الحياة الاجتماعية، وبالتالى -كنتيجة طبيعية- أصبح هناك تردي في الأخلاقيات.