بين الصوم الروحي والصوم السياسي

عبدالله العودة | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بين فينة وأخرى، نسمع عن حالات إضراب إما في معتقلات الظلم، أو من عمال في مصنع أو حقل أو محطة، والإضراب في حقيقة الأمر "توقف" عن فعل شيء ما، ومثله مثل المقاطعة التي تصنّف داخل دائرة "المقاومة السالبة" بمعنى المقاومة، ليس بالفعل، ولكن عن طريق التوقف عن فعل شيء ما. ومثل هذه المقاومات السالبة كان هناك إرث قديم يصنّف داخل دائرة الصوم، ويمكن لنا بالتعريف المعاصر أن ننظر له كصوم سياسي. 

كلمة “الصوم” لغةً ووضعًا يتم استعمالها على ما هو أوسع من التوقف عن الأكل، ليكون أحيانًا عملًا رمزيًا ودينيًا قد يتوقف فيه الإنسان عن الحديث أو عن العمل أو عن التصريح أو عن الفعل؛ كما قالت مريم عليها السلام: “إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلّم اليوم إنسيّا” فصامت عن الكلام أيضاً، وكما قال الله عزوجل لزكريا عليه السلام: “قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سويّا” فصام زكريا عليه السلام عن الكلام.

ومفهوم الصوم، رغم جوهره وأساسه الديني وأسراره الروحية العظيمة، قدّم إلهامات مهمة في التاريخ لممارسة العمل الاجتماعي والسياسي، ولن يكون هذا بدعًا من المفاهيم الدينية.

لن يبدو غريبًا على أي دراسة للعمل السياسي المدني وتاريخه حضور المفاهيم الدينية وتسربها بشكل كبير في ثناياه، حتى في الحركات التي قامت لتكون محايدة دينيًا أو متسامحة؛ لذلك كان غاندي يختم مذكراته الشخصية قائلًا: “من يقول بأن الدين لا شأن له بالسياسة، لا يعرف الدين ولا يعرف السياسية” وقدم غاندي نفسه نموذجاً عملياً لمفاهيم صوم أو مقاومة سالبة ذات أساس ديني استعملها لأجل الحقوق المدنية.

وعمليًا غاندي استلهم فكرة الحج، ليقوم بالحج السلمي كما سماه مع مجموعته في جنوب إفريقيا يوم كان هناك، وشكّل حينها “موكب الحجاج السلمي”، وكان ذلك حدثًا مهمًا وآلية مبتكرة للتعامل مع الوضع القائم إبّان سيطرة البيض عنصريًا، وغاندي استلهم تلك الممارسة من طقوس هندية قديمة لا يستبعد أن تعود نسبة بعضها لدين سماوي.

وإبّان الإضراب العمالي الذي قاده غاندي في الهند، وحينما خشي أن تضمر تلك الروح الحية أو أن يتحول الاحتجاج لعنف؛ قرّر الصوم وصعَدَ على الملأ ليعلن بأنه نذر صومًا، ولم يدم صومه سوى ثلاثة أيام ليكون مرحلة فاصلة لاتفاق اجتماعي بين أصحاب المصانع والمضربين، وليكون ذلك طريقًا للعمل المدني عبر الصوم السياسي.

وفي السياق العربي والإسلامي، كان هناك تقليد عريق وقديم استخدمه الكثير من العلماء والمؤرخين والمؤثرين في التاريخ الإسلامي، يقوم على فكرة الصوم السياسي، عبر الامتناع عن ممارسة العمل السياسي ضمن قالب معين، ليكون هذا الامتناع بحد ذاته موقفًا مهمًا وقويًا، وهذا الموقف المهم هو نوع من الاحتجاج والاستقلال المشروع ضمن الآليات الطبيعية التي يحملها ويستخدمها هؤلاء ضمن الظروف المتاحة.

بدءًا من الأئمة الأربعة الذين “صاموا” عن ممارسة مهنة القضاء، وتم جلد أغلبهم على ذلك، حتى أن بعضهم يقال بأنه مات من ذلك الجلد، إلى أئمة آخرين رفضوا مناصب سياسية مختلفة وصاموا عن العمل الرسمي، وآخرين رفضوا أن يدخلوا البلاط بالكليّة أو يجاوروا السياسي، أو أن يعيشوا في كنفه أو أن يقبلوا منه الأعطيات. وكل ذلك من الصوم المشروع، ضمن ثقافة عريقة وقوية تحذّر من تغوّل السياسي وسيطرته على كل وجوه العمل الشعبي الديني وكل وجوه التأثير فيه.

وسبب آخر لكل ذلك الصوم السياسي، هو أن هؤلاء العلماء والفقهاء والمفتين الكبار، ربما كانوا يرون في الارتباط الاجتماعي أو السياسي أو القضائي بالعمل الرسمي نوعًا من إضفاء الشرعية الضمنية على كل قرارات وسياسات الجهة السياسية؛ وبالتالي بسط يدها في شؤون الناس المختلفة، وتقديم أشكال السياسة الفردية الارتجالية وكأنها سياسة عادلة مشروعة يساندها الدين وحملته ورجال الإفتاء فيه.

الصوم السياسي، يعني نزع حالة الرضا، وإظهار الاعتراض، وفي ذات الوقت، عدم تقديم العلماء والفقهاء بلباس ممارسة العمل السياسي الصرف أو امتهانه، فهم ضمن هذا الإطار لا يقدمون أنفسهم كبدائل للجهة الإدارية والتنفيذية، ولكنهم جهة يحق لها كجزءٍ صميمٍ وأساسيٍ من المجتمع والشعب ممارسة مهمة الرقابة والتوازن.

هذا التقليد القديم في الاحتجاج عبر الصوم، كان سلوكاً جليلاً لمجموعة كبيرة وعظيمة ومهمة في التاريخ العالمي والإسلامي، التي تستخدمه نسبيًا في بعض الموضوعات، أو في بعض الحالات، أو في بعض المجالات، أو تجاه بعض الناس، وبأي طريقة استخدموه فهم يضعون إلى جوار معناه الروحي الأهم: رسالته الاجتماعية والسياسية في الاحتجاج الضمني على الخطأ، والتحفظ الضمني على الجور، والرفض الضمني لشرعية ممارسة الظلم الممنهج.