يوسف القرضاوي.. علامة أزهري لم يستطع العسكر "حصار فكره" فقاد علماء الأمة

12

طباعة

مشاركة

العالم والداعية الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي، سهم وافر في كل درب، من الفقه والشريعة، مرورا بالأدب والشعر، إلى الفصاحة والخطابة، ففي موطن العلوم الشرعية رائد، وفي محافل السياسة ومناهضة المستبدين ثائر.

والقرضاوي من أكثر دعاة عصره قربا من الناس، وتأثيرا في الشعوب العربية والإسلامية بمختلف مشاربها، وهو بحسب شهادة علماء عصره، صاحب مدرسة وسطية قامت على الجمع بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر الحديث.

وفي 26 سبتمبر/أيلول 2022، أعلن عن وفاة الشيخ القرضاوي، عن عمر ناهز 96 عاما، بعدما خلف إنتاجا غزيرا من الكتب والفتاوى والأحكام، إضافة إلى سيرة ذاتية فريدة.

نابغة عصره

والقرضاوي، أحد أعلام الإسلام البارزين في العصر الحاضر في العلم والفكر والدعوة والجهاد، في العالم الإسلامي مشرقه ومغربه.

أسس القرضاوي رفقة علماء من العالم الإسلامي عام 2004، "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، وكان أول رئيس للاتحاد (حتى 2018) وأحد رموزه البارزة.

على الصعيد السياسي، ناصر الشيخ القرضاوي ثورات "الربيع العربي"، وجابه الديكتاتوريات العربية في أقطار عديدة، لا سيما مصر.

في الخمسينيات من القرن الماضي، دخل "السجن الحربي" في زمن نظام الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر,

وصدرت بحقه مجموعة من الأحكام في عهد الانقلابي، عبد الفتاح السيسي، أبرزها الإعدام والمؤبد.

وتبقى سيرة ومسيرة القرضاوي، شاهدة على رجل لم يمر عابرا، بل ترك أثرا باقيا، في كتبه وفي شهادة تلاميذه ومعاصريه، فتطابق تراثه العلمي والأدبي مع مواقفه الحياتية، ما جعله محل حب وتقدير من الجماهير، ومحل كراهية ونفور من الحكام.

ولد يوسف عبد الله القرضاوي في 9 سبتمبر/أيلول 1926، في قرية صفط تراب مركز المحلة الكبرى، بمحافظة الغربية (منطقة الدلتا) في الشمال المصري. 

عرف اليتم منذ حداثة سنه، حيث توفي والده وعمره عامان، فتولى عمه تربيته.

أتم حفظ القرآن الكريم، في كتّاب القرية (نظام لتعليم وحفظ القرآن الكريم كان متبعا قديما في مصر) وهو في سن العاشرة. 

انتمى القرضاوي إلى الأزهر الشريف حتى تخرج من الثانوية الأزهرية، وكان ترتيبه الثاني على المملكة، حينما كانت مصر تخضع للحكم الملكي.

التحق الشيخ بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، وفيها حصل على "العالمية" (تعادل درجة البكالوريوس أو الليسانس) عام 1953 وكان ترتيبه الأول بين زملائه وعددهم 180 طالبا.

عام 1954 حصل على إجازة التدريس من كلية اللغة العربية، وكان ترتيبه الأول بين زملائه من خريجي الكليات الشرعية بالأزهر، وعددهم خمسمائة.

بعدها حصل القرضاوي على دبلوم معهد الدراسات العربية العالية في اللغة والأدب عام 1958.

وفي 1960 حصل على الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين.

عام 1973 حصل على الدكتوراة بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من نفس الكلية، وكان موضوع رسالته "الزكاة وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية".

توجهاته الفكرية

وعن أفكاره وتوجهاته، يعد الشيخ القرضاوي من أبرز الشخصيات في تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين"، وانطلق منها إلى مختلف بقاع العالم الإسلامي ينشر الوسطية التي جمعت بين السلفية والتجديد.

وحرص على المزج بين الفكر والحركة، وركز على فقه السنن والمقاصد والأولويات، ووازن بين ثوابت الإسلام ومتغيرات العصر الكثيرة، بل إنه أول من وضع لبنات فقه الأقليات المسلمة في الغرب. 

وبسبب نشاطه الحركي، وانتمائه إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، اعتقل عدة مرات، أولها عام 1949 وهو لا يزال طالبا في المرحلة الثانوية.

ثم اعتقل في الحملة الأمنية الكبرى التي شنها نظام عبد الناصر على الجماعة عام 1954، حيث أعدم كبار قادتها ومنهم، الشيخ محمد فرغلي، والمستشار عبد القادر عودة، فيما قبع القرضاوي في السجن. 

يروي الشيخ القرضاوي التجربة القاسية لاعتقاله في كتابه "مذكرات ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة"، فيقول: "عرفت السجن الحربي في اعتقال يناير/كانون الثاني 1954، وكان اعتقالنا في عنبر رقم (4)، وكان سجنا انفراديا، كل معتقل في زنزانة".

وأضاف: "ثم رحلنا إلى السجن الحربي، الذي لا يمكن وصفه ولا تصويره بالكلمات والحروف، نثرا أو شعرا، لقد عرف الناس من قديم الزمن السجون، وما يجرى فيها من فنون الأذى، وألوان العذاب، سمعنا عن سجن (الباستيل) في فرنسا، وعن سجون الأكاسرة والقياصرة والفراعنة وغيرهم". 

واستدرك: "لكن السجن الحربي أعطى صورة عن السجن لا نظير لها فيما أعلم، وقد تجمع في هذا السجن، الطرائق القديمة للتعذيب، والطرائق الحديثة، المستوردة من النازية والفاشية والشيوعية التي تفننت في أساليب تعذيب البشر وإذلالهم، ومحاولة التأثير على أفكارهم وسلوكهم".

وأورد: "وهو ما ذكره صلاح نصر (مدير المخابرات المصرية) ورجل عبد الناصر في كتابه (الحرب النفسية)، وهو ما اجتهدوا أن يطبقوا نظرياته على الإخوان بجلافة، في هذا الأتون الكبير الملتهب المسمى السجن الحربي".

ومن هول ما رآه الشيخ القرضاوي في ذلك السجن، كتب قصيدته المعروفة بـ"النونية"، وهي واحدة من أروع أدبيات القرضاوي، وخلد فيها ما حدث معه من تعذيب ومآسٍ.

وكان مما قاله فيها:

فالهول عات والحقائق مرة.. تسمو على التصوير والتبيين

والخطب ليس بخطب مصر وحدها.. بل خطب هذا المشرق المسكين.

وضمت القصيدة واحدة من أشهر الأبيات التي دائما يستشهد بها في الصمود والمقاومة، حيث قال القرضاوي: 

تالله ما الدعوات تهزم بالأذى.. أبدا وفي التاريخ بر يميني

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي.. بالسوط ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار فكري ساعة.. أو نزع إيماني ونور يقيني.

خرج القرضاوي من السجن مطلع ستينيات القرن الماضي، وفي سنة 1961، سافر إلى قطر، وعمل فيها مديرا للمعهد الديني الثانوي. 

وكانت هذه بداية استقراره هناك، حتى حصل على جنسيتها، وأصبح واحدا من أهم رموزها على المستوى الإقليمي والعالمي.

علوم القرضاوي 

ترك الشيخ القرضاوي تراثا علميا كبيرا، حيث ألف مجموعة كبيرة من الكتب تجاوزت 170 كتابا، وتناولت مجالات عدة على رأسها علوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة والدعوة والفكر والتصوف والأدب (شعرا ومسرحا).

ومن بين كتبه، "الحلال والحرام في الإسلام"، "العقل والعلم في القرآن الكريم"، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، "فقه الزكاة"، "فقه الجهاد"، "الإسلام والعلمانية وجها لوجه".

وكذلك "عالم وطاغية" وهي مسرحية تاريخية، تناولت مواجهة الإمام سعيد بن جبير، والحجاج بن يوسف الثقفي. 

وفي عام 2008 ضمن استطلاع دولي أجرته مجلتا "فورين بوليسي" الأميركية و"بروسبكت" البريطانية، احتل القرضاوي المرتبة الثالثة في قائمة 20 شخصية فكرية هي الأكثر تأثيرا على مستوى العالم. 

ومع ذلك التراث الفريد، تجلت رؤية القرضاوي العلمية والفقهية، عن أن "الاستبداد السياسي ليس مفسدا للسياسة فحسب، بل هو مفسد للإدارة والاقتصاد والأخلاق والدين، وهو مفسد للحياة كلها".

وعندما اندلعت ثورات "الربيع العربي" في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وصفها الشيخ بأنها "منحة إلهية لتغيير مسار شعوبها"، وأدان بشدة موقف الحكام في مواجهة الثائرين المسالمين بالرصاص والقتل.

الموقف العالم من "الربيع العربي"، دفع ثمنه بعد ذلك، من محاولات التنكيل به وبعائلته، رغم كبر سنه ومرضه.

محاكمات كيدية

بعد نجاح ثورة 25 يناير 2011، في إسقاط نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، والدولة البوليسية التي قمعت مصر بعقود طويلة، عاد القرضاوي إلى بلاده.

وفي فبراير/شباط 2011، قام لأول مرة بالإمامة والخطابة في مصر بعد 31 عاما من المنع، حيث ألقى خطبة الجمعة (التاريخية) في ميدان التحرير وسط القاهرة، الذي كان مهدا ورمزا للثورة. 

وردا على اتهامه بالتحريض على نظام الرئيس المخلوع مبارك في أيام حكمه الأخيرة، قال القرضاوي إن "من حق الناس أن يثوروا على الظلم والباطل".

وهو نفس المبدأ الذي دعاه لمناهضة الانقلاب العسكري في مصر بقيادة السيسي، في 3 يوليو 2013، واستنكاره للمذابح التي أعقبت تلك العملية، وخلفت آلاف القتلى. 

ذلك الموقف، دعا نظام السيسي للانتقام من الشيخ على أكثر من محور.

ففي 16 مايو/أيار 2015، صدر حكم قضائي من قبل القضاء، بإحالة أوراق (إعدام) الشيخ القرضاوي، ونحو مائة آخرين بينهم الرئيس المنتخب ديمقراطيا (الراحل) محمد مرسي، إلى المفتي فيما يعرف بقضية "الهروب من سجن وادي النطرون" أثناء "ثورة 25 يناير"، وهو حكم أثار جدلا، نظرا لأن الشيخ لم يكن في مصر منذ عقود طويلة.

القرار وصفه الشيخ بأنه "لا قيمة له ولا يستحق أن يتابع، لأنه خارج عن العقل والقانون". 

ثم علق قائلا: "القضاء المصري كان في السابق مفخرة وللأسف أصبح الآن مهزلة". 

وفي 17 يناير 2018، صدر حكم آخر بالسجن المؤبد (25 عاما) ضد الشيخ القرضاوي، تحت مزاعم إدانته باتهامات التحريض على القتل. 

التنكيل لم ينل القرضاوي وحده، بل أسرته وتحديدا ابنته "علا"، التي اعتقلت في يونيو/حزيران 2017، بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين. 

وظلت علا في محبسها، رغم الانتقادات الحقوقية من قبل جمعيات حقوق الإنسان، ومنظمات العمل المدني، حتى أفرج عنها عام 2021، بعد تدهور وضعها الصحي. 

وكتب الشيخ القرضاوي، في 2 يوليو/تموز 2018، رسالة إنسانية مؤثرة إلى ابنته المعتقلة.

وقال في رسالته: "إنك يا ابنتي لا تغيب صورتك عن مخيلتي، ولا ذكرك عن بالي، وأسأل الله في دعواتي وصلواتي وخلواتي أن ينجيك من القوم الظالمين، وإن كنت ككل أب تتحرك مشاعره ويعتصره الألم فيحترق قلبه وتفيض عيناه كلما ذكر هول ما تعانيه ابنته ظلما وعدوانا".

رثاء القرضاوي 

وبعد رحلة دامت قرابة قرن من الزمن، أثرى فيها الشيخ العالم الإسلامي، وكان رمزا من رموزه العلمية، توفي في العاصمة القطرية الدوحة ظهر 26 سبتمبر/أيلول 2022 بعد معاناة مع المرض، الذي منعه في الآونة الأخيرة عن كثير من الأنشطة العلمية والدعوية.

وعم الحزن مواقع التواصل الاجتماعي، ودون ناشطون ومفكرون، عن قيمة وقامة الشيخ الراحل.

وغرد ابنه عبد الرحمن قائلا: "وترجل الفارس". 

ودون الإعلامي المصري، زين العابدين توفيق: "رحم الله الدكتور العلامة المجتهد المحترم الفقيه المتبصر الذي أثرى عقولنا باجتهاداته وأشجى قلوبنا بعاطفته الصادقة الفتية وجزاه الله عن الأمة خير الجزاء".

وقال الصحفي الفلسطيني فراس أبو هلال: "رحم الله الدكتور ‫يوسف القرضاوي‬، كان عالما ملأ السمع والبصر طوال حياته، ومدافعا عن أمته لعقود طويلة. كان محبا لفلسطين ومؤمنا بها قضية للأمة جمعاء. رحمه الله وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء".