المعارك التي لا تقرع لها طبول الحرب
لقد قيل في المثل إن الحرب خدعة، وأكبر الخدع أن يباغت العدو عدوه، فيفاجئه بهجوم من حيث لا يدري، وفي الوقت الذي لا يتوقع، وأغلب الظن أنه منتصر في معركته هذه، ذلك أن الحصون في غير أوقات الحرب تترك أبوابها مشرعة، وتجد بين أروقتها مندوحة للسياسة، تتغير معها وبسببها الأحوال وتتبدل، وتتدافع دوائر القوى، فتتغلب بعضها على بعض، فيما تبقى الأبواب مشرعة على مصارعها.
يخسر الإنسان معركته الأولى في الإيمان الراسخ بمعتقده مع أول ابتسامة/ ضحكة عفوية يطلقها أمام نكتةٍ يسمعها تجعل من معتقده ذاك مادةً لها، فبعد تلك اللحظة لا يعود هو ذات المؤمن، والعجيب كيف أن نكتة بسيطة تستطيع أن تهز بنيان الإيمان الراسخ. صحيح أن النكات تجد أرضها الخصبة أمام التابوهات التي يأتي في مقدمتها الدين والجنس والسلطة لا سيما الديكتاتورية منها، إلا أن هذا الاستغراب ينبع من إدراك حجم تغلغل الإيمان في روح الإنسان، حتى أنه يشكل جزءًا أصيلاً من هويته الذاتية، فكيف يمكن لهذا الشيء العصي أن يتزعزع ولو مقدار شعرة أمام نكتةٍ بسيطة؟
على أن هذا الاستغراب يدفعنا إلى إعادة السؤال حول فكرة تغلغل الإيمان –والإيمان يحضر هنا بمعناه الواسع- وإلى أي مدى هو متأصل في النفس البشرية. ومن جهة أخرى، علينا أن نستحضر فكرة "إنما تنجع المقالة في المرءِ إذا صادفت هوىً في الفؤاد" لدى التفكير حول هذه المسألة، فأغلب الظن أن هذا التزحزح الذي يحصل لدى سماع النكتة لا يكون إلا إذا سبقته مقدمات من "القابلية للتزحزح" صغيرة كانت أم كبيرة.
وهب أن داعيةً دينيا أو لا ديني، كأحمد ديدات وريتشارد داوكينز، أراد أن يبرهن للمخاطب صدق معتقد أو بطلان آخر، ويقدم في هذا السبيل الحجة تلو الحجة، ويراكم الدليل فوق الدليل، هل سيكون ناجحا في مقصده؟
إني لأتصور أن فاعلية هذا الأسلوب ضعيفة جداً، لأن الخطاب المباشر يقابله خطاب مباشر ومضاد، والحجة تقابلها حجة، حتى وإن كانت لا تحمل من معنى الحجة إلا اسمها، فخطاب مباشر كهذا هو بمثابة جرس مبكر للحرب، يقف معه المخاطب موقف المستعد والمتحفز للمواجهة، وبغض النظر عن قوة هذه المواجهة، فحتى إن لم تسعف الحجج سيسعف الكِبر، إلا أن الشاهد من هذا الكلام هو أن عنصر الاستعداد والإعداد لا شك أنه مخفف من فاعلية الخطاب وينزل به إلى أقل درجة.
يتلبس الكثير من أهل الثقافة نازلٌ من الوحي، ينظرون به في أنفسهم رسلاً للتنوير، أوصياء على الناس، لكأن البشر في حاجة إلى أوصياء جدد، ويتدرج هؤلاء من أكثر الأشكال ضحالةً وتعصباً ومباشرةً في الخطاب الفوقي التلقيني الوعظي تجاه الجماهير، إلى أكثر الأشكال تعقيداً وتجرداً.
وهذا المعنى يحمل في طياته افتراض أن كل إنسان يحمل في داخله رسالة يود إيصالها إلى الغير بصورة واعية أو لا واعية، تتفكك هذه الرسالة لتصبح رسائل أصغر، تكشف عن نفسها في مختلف المواقف والأحداث اليومية، ويتنوع هؤلاء "الغير" ويتبدلون بحسب الحدث والموقع. وهذه الرسالة غالباً ما يظن فيها صاحبها أنها "ما ينبغي أن يكون" و/أو تجلياً لفكرة الخير/الحق/الجمال، وبالتالي يتضمن تبشيراً واعيا أو غير واعٍ بها، و"التَّبشير في جوهره شكل من أشكال الإغراء، إغراء الآخر ببضاعة من نوع خاصّ، فعل الإغراء دائمًا ما يكون مبطَّنا بالتَّوق إلى تحصيل قبول الآخر لهذه البضاعة، وهذا بغضّ النَّظر عن السَّبب المحرّك لفعل الإغراء...".
وبناءً على ذات الفكرة، فإن فعل الإغراء هذا يكون أضعف ما يكون في حال تجسده في خطاب مباشر إلى عقل الإنسان ومنطقه، وهو أنفذ ما يكون في حال تلبسه شكلاً غير مباشر من أشكال الإغراء، ومن أقوى أشكال الإغراء –الذي لا يفترض أن يكون واعياً- هو أن يجسّد المثقف من نفسه "إمكانية للوجود"، وهذا المصطلح استفدته خلال نقاش مع باحث الإنثروبولوجيا الفرنسي Mehdi Vct، ومعنى إمكانية الوجود هذه بكل بساطة، أن يكون لذلك المثقف نمطه المميز للحياة والمختلف عن المحيط السائد، وتجده يواصل بثقة في نمطه المميز ذاك.
إن فعل هذا النمط هو أقوى أثراً من خطابهم المباشر حيال مختلف الأفكار، حتى وإن كانت تلك الأفكار غريبةً عن ذلك المحيط، نجد أن تجسدها بثقة في ذلك المثقف من خلال مظهره الخارجي أو من خلال عاداته المميزة سيؤدي إلى خلق إمكانية أقوى لجعلها أفكاراً طبيعية ومألوفة، وبالتالي إلى خلق قابلية للتصالح معها أو حتى الاقتناع بها عند أشخاص ما كانوا ليتصالحوا معها أو يقتنعوا بها فيما لو تم تقديمها لهم عن طريق خطاب مباشر.
انشئت دار الأوبرا السلطانية بمسقط في عام 2011 وكان يفترض بها نشر الثقافة الموسيقية، وتوطينها وتبيئتها في سلطنة عمان من خلال العروض والبرامج الموسيقية المختلفة، ويحق لنا أن نتساءل وهي تشارف على إتمام عقدها الأول عن الرسالة التي قدمتها، وإلى أي مدى استطاعت أن تغير الصورة النمطية عن الموسيقى في المجتمع العماني، وإلى أي مدى استطاعت تقديم الفنون الموسيقية القادمة من مختلف شعوب العالم إلى المجتمع العماني؟ ويجب الاعتراف أن هذا السؤال كبير والإجابة عليه ومراجعة التجربة تحتاج الكثير من الدقة من قِبل المختصين، ولكني وبحسبي متابعا شبه دائم لأنشطة الدار، أستطيع أن أقول أننا يمكن أن ننظر إلى هذه المسألة في وجهين، أما الأول يتعلق بالعروض وتنوعها وجودتها، أما الثاني فهو قدرتها على "اختراق" الصورة النمطية وخلق صورة أرقى للموسيقى وفنونها في المجتمع العماني.
- أما الأول فإن الإجابة إيجابية بشكل عام، فالعروض التي تقدمها الدار عروض مميزة جداً ولا تختلف عن مثيلاتها التي تقدمها كبريات دور الأوبرا في مختلف المدن العالمية، وبأسعار بسيطة جداً إذا ما تمت مقارنتها بأسعار تذاكر الدخول الموجودة في العديد من دور الأوبرا المحيطة.
- أما الوجه الثاني، فإني لا أتوقع أن الدار حققت الكثير، لأنك واجدٌ أن الصورة الجمعية عن الدار أنها شيء نخبوي، ونوعاً ما غريب عن محيطه، وأسباب ذلك كثيرة ومتنوعة، وتستحق تأملها والبحث حولها بتأن، على أن الدار كان من الممكن أن تحقق جزءًا من "الاختراق" عن طريق "خلق المثال"، ويمكن أن يتم بتبني إستراتيجة يتم بموجبها إعداد محترفي موسيقى عمانيين بمختلف المجالات الموسيقية، وينتمون لمختلف مناطق السلطنة.
وسيتحقق "خلق المثال" عندما يكون لأحدنا جار عازف على العود، وآخر من معارفنا عازف على الكمان أو البيانو ... إلخ، ويصبح هذا الأمر مشاعا وطبيعيا جداً، هذه الأمثلة لابد أن تلهم بصورة غير مباشرة أجيالا تالية لاحتراف الموسيقى، وركوب النغمات عن حب وشغف، وهذا الأمر لابد مع مرور الوقت أن ينتج حالة معترفابها ومنتمية إلى الثقافة الجمعية لا غريبة عنها.
للرواية سلطان أقوى من أقوى كتاب فكري، ذلك أنها لا تقترح عليك أن تقتنع بهذه الفكرة أو تلك، هي فقط تخبرك عن أشخاص وأماكن وأحداث، تعيش مع شخوصها لحظات بعينها، تحدثك عن مفارقات وتناقضات الإنسان، تعرّيه أمامك، بل تجعلك، فيما لو كانت رواية عظيمة، جزءا من ذلك المخاض، ولدى وداعك لآخر حرف في الرواية، تدرك أن شيئا قد تغير، ولكن يبقى السؤال ما هو؟ لن تعرف على الفور، ولكنك متيقن أن ثمة شيء فيك قد تغير، ستدرك مع مرور الزمن ما الأفكار التي حطمت وفتت في داخلك من دون حتى أن تشعر، ستدرك أنك كنت ضحية لمعركة مباغتة، لم تقرع لها طبول الحرب.