مواسم الهجرة من الجزيرة العربية
يعج تاريخ الجزيرة العربية الحديث منذ القرن الثامن عشر وقبل النفط بمواسم هجرات متتالية كانت أسبابها اقتصادية وسياسية. أما بعد اكتشاف النفط تصدرت الهجرة السياسية المكان الأول مدفوعة بتأسيس نظام سياسي فشل في استيعاب الاتجاهات المختلفة التى برزت على الساحة. ولكن ظلت الهجرة الاقتصادية طلبا للعمل خاصة في المحيط الخليجي ظاهرة متعلقة بعدم قدرة الاقتصاد الريعي النفطي على توفير العمل لجميع الكوادر المتعلمة.
ويمكن أن نتحدث عن ثلاث مراحل للشتات خلال القرون الثلاثة السابقة:
- المرحلة الأولى: في بداية القرن الثامن عشر كانت مدفوعة اقتصاديا حيث كان اقتصاد الجزيرة الرعوي والحضري رهين موجات الجفاف، وقبل النفط، تزامنت موجات الشتات مرتبطة بأعوام القحط وتفشي الأمراض، ونشأت جاليات من الجزيرة في المحيط العربي وخاصة العراق وسوريا وبنسبة أقل في مصر.
كانت هذه الهجرة طلبا للرزق وخاصة تجارة القوافل التي اشتهرت بها قبائل الجزيرة وواحاتها، واستقرت هذه الجاليات في مدن الخليج الساحلية أو في الداخل العراقي والسوري ومن أهم هذه المستوطنات تشكلت في الزبير العراقية ورحل البعض إلى شواطئ الهند طلبا للتجارة المتنقلة وخاصة مدينة مومباي حيث تأسست بيوت تجارية تعود أصولها إلى عمق الجزيرة العربية.
وبعد بروز الدعوة الوهابية في منتصف القرن الثامن عشر، والحروب التي شنتها قيادتها على أطراف مختلفة في الجزيرة العربية، برزت موجة هجرة جديدة قسرية هربا من التسلط السعودي الوهابي ويمكن أن تصنف هذه الهجرة كنوع جديد دافعه الضغط الديني والسياسي.
وازدادت نسبته في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، واستقرت قبائل متعددة في الشمال العربي كالعراق وسوريا واستوطنت بعيدا عن الضغط السعودي الذي لم يستطع التوسع خارج حدوده الثقافية وحاضنته الاجتماعية رغم أنه حاول ذلك مرارا.
- المرحلة الثانية من مواسم الهجرة، تزامنت مع تأسيس الدولة السعودية الحالية، بعد عام ١٩٣٣ عندما تبلورت هوية الدولة كدولة إقصائية رافضة لمفهوم المشاركة السياسية حتى للمجموعات التي ساهمت بشكل فعال في تاسيسها وتنميتها خاصة الصدام الذي حصل مباشرة بعد تفرد القيادة السعودية بالحكم مباشرة.
ونشير هنا إلى لحظة الصدام التي حصلت عام ١٩٢٧، بين هذه القيادة وما سمي إخوان من طاع الله التي تأسست من قبائل متعددة وناصرت المشرع السعودي للهيمنة على الجزيرة العربية مجددا كقبائل عتيبة والعجمان ومطير وحرب وشمر وغيرهم.
واستوطن البعض في المحيط الخليجي القريب حينها هربا من البطش. ورغم أن الصدام قد صورته المنظومة السعودية وكأنه صدام بين قيادة مستنيرة وأعراب متطرفين لا يفهمون معنى الحدود الدولية والعلاقات مع القوى العظمى، إلا أن الصراع كان بالدرجة الأولى على مستقبل الدولة السعودية وما تلاه من إقصاء للقبائل التي ساهمت في المشروع منذ بداية القرن العشرين.
وما إن أسدل الستار عن هذه الهجرة حتى برزت هجرة قصرية أخرى تبلورت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وهي أيضا هجرة دافعها سياسي بحت حيث استوعب الكثير من أبناء الجزيرة وتبنى بعضهم الخطابات السياسية المنتشرة في العالم العربي حينها كالتيارات الناصرية القومية والبعثية، بالإضافة إلى الحركات اليسارية المناهضة للإمبريالية والرأسمالية.
ورغم أن الحراك السياسي كان محدودا حينها بمظاهرات في أماكن حقول النفط إلا أن الفكر القومي خاصة كان قد تمكن من جذب شرائح متعلمة حديثا تبنته كخطاب مقاومة للسلطة المستأثرة في الحكم. وكمهاجري المرحلة الأولى اتجه هؤلاء إلى عواصم عربية مختلفة، كبيروت ودمشق وبغداد والقاهرة، حيث وجدوا حواضن التيارات القومية واليسارية في تلك الفترة.
ولم تمنع الطفرة النفطية الجزيرة العربية، التي أصبحت هي نفسها حاضنة للمهاجرين العرب من مختلف الجنسيات، أن تصدر أبناءها إلى العمق العربي طالبين البعد عن القمع والتضييق السياسي. واحتوت هذه الهجرة ناشطين سياسيين وكتاب وروائيين وبيروقراطيين كلهم تصدو للمشروع السياسي الذي قلص الحريات؛ حتى أن بعض الأمراء الذين جرت تسميتهم بالأحرار انضموا الى هذا الشتات الجديد وتوزعوا على العواصم العربية الشمالية.
اختفت في هذه المرحلة الهجرة الاقتصادية خاصة بعد طفرة عام ١٩٧٣ وتحولت الهجرة من الجزيرة العربية إلى هجرة قسرية أسبابها سياسية صرفة.
- المرحلة الثالثة الحالية، التي تعود إلى بداية التسعينات حتى اللحظة، لها شقان الأول اقتصادي والثاني سياسي.
تبلور الشق الاقتصادي نتيجة فشل الاقتصاد النفطي الحديث على توفير العمل لشريحة كبيرة من الذين استفادوا من اتساع القطاع التعليمي والبعثات المتتالية للخارج، لكنهم لم يجدوا الفرص الكافية للعمل واتجه هؤلاء إلى المحيط القريب الخليجي والذي ازدهر سريعا لكنه مازال محتاجا لليد العاملة المتعلمة.
وازدادت وتيرة هذه الهجرة بعد انهيارات متتالية لأسعار النفط، حيث توقفت وتيرة التوظيف والتنمية واستشرت المحسوبية والواسطة كوسائل لايجاد العمل والفرص. وازداد الفساد في الدوائر التي تعرض فرص العمل، مما أدى إلى هجرة اقتصادية بحتة تطلب سوقا توظيفيا جيدا وتعويضا شهريا يفوق ما تقدمة السوق السعودية.
ونلاحظ أن حتى المرأة السعودية التحقت بموجة الهجرة إلى الخليج حيث وجدن فرص للتوظيف خاصة في مجالات تربوية وتعليمية تزامن مع التوسع المؤسساتي في دول الخليج المجاورة، مما سبب إحراجا للقيادة السعودية التي فشلت في استيعاب العدد الكبير من النساء الحديثات التعليم والمهنية مما أدى إلى نفي صحة الأخبار عن وجود نساء مهاجرات رغم تداول أخبار وإحصائيات عن ذلك.
ونصل إلى المرحلة الحالية في مواسم الهجرة من الجزيرة العربية حيث يبرز بوضوح ارتفاع أرقام المهاجرين القسريين لأسباب سياسية، التى قدرتها مجلة الايكونومست بارتفاع ٢١٨ % معتمدة على إحصائيات المفوضية العالمية للاجئين، ووصلت الأرقام إلى أكثر من ألف مهاجر قسري ولاجئ سياسي، وطبعا لا يتضمن هذا الرقم المتواجدين في الخارج قسريا دون تقديم طلبات اللجوء في دول المهجر.
من أبرز ملامح هذه الهجرة القسرية تعدد وتباين الخلفيات الثقافية والسياسية للمهاجرين حيث المرأة والرجل اختارا الشتات القسري على العيش في الداخل المقيد الذي أصبح أكثر سلطوية وقمعا. ورغم الانفتاح الاجتماعي الحالي، نجد أن الكثير من اللاجئات هن نساء فضلن الغربة واخترنها على العيش المقيد اجتماعيا وسياسيا رغم الدعاية الرسمية عن الحقبة السعودية الجديدة المنفتحة اجتماعيا لكنها مقيدة سياسيا.
أما بالنسبة للشباب نجد شرائح واسعة بقيت في الخارج بعد اكتساب التعليم خوفا من حالة البطش وعدم الاستقرار السياسي، حيث الخوف من بطش السلطة على خلفية أي عمل سياسي أو اجتماعي أو حقوقي قد يؤدي إلى السجن. وتبقى الدوافع السياسية هي الوحيدة التي تدفع الشباب إلى البقاء في الخارج وينضم إلى هؤلاء شريحة تنتمي للتيار الإسلامي الذي هو أيضا يهرب من الحملة العشوائية الحالية.
تبدو المرحلة الحالية للهجرة القصرية وكأنها ستستمر إلى فترة طويلة، حيث لا توجد إشارات تدل على أن الوضع السياسي المتسم بالقمع سينتهي في المستقبل القريب. ويبدو هذا المستقبل قاتما سيزيد من موجات الهجرة القصرية، ورغم أن الجزيرة العربية غير مؤهلة لفقدان عدد كبير من المتعلمين والمتأهلين خاصة أن العمالة الأجنبية لا تزال تشكل أكثر من ثلثي عدد السكان، إلا أنها حاليا تعيش مرحلة استنزاف لكوادر هي في أمس الحاجة لها؛ خاصة وأن القيادة تدعي رغبة عارمة في سعودة العمل وتوسيع دائرة فرصه.
ولكن دون استقرار سياسي وعملية جريئة لاستيعاب الآراء المختلفة والمواقف السياسية المتباينة، ستظل الهجرة القسرية متزامنة مع التطور المجتمعي الذي يضيق بتقليص الحريات والقمع السياسي والاعتقال التعسفي. إذا نحن في صدد استمرار هذا النزيف الذي تشكل بقوة خاصة خلال الأعوام الثلاثة السابقة.
وفي عصر النفط لا تزال الجزيرة العربية تستقبل المهاجرين من الخارج لكنها تصدّر أبناءها قسرا إلى المهجر.