جدل واسع صاحب الذكرى 99.. هل تفرض تركيا تغييرا على معاهدة لوزان؟

رامي صباحي | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

مع كل ذكرى سنوية لتوقيع معاهدة لوزان بين تركيا ودول الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الأولى، يتجدد الجدل بشأن مصير هذه الاتفاقية التي رسمت حدود دول عديدة بجنوب أوروبا والشرق الأوسط.

لكن الجدل الذي صاحب الذكرى الـ99 في تركيا، تميز عن سابقه، لأنه جاء في ظل توتر سياسي متصاعد مع الجارة اليونان التي تواصل تسليح جزر بحر إيجة ضاربة بعرض الحائط بنود لوزان والاتفاقيات المكملة لها، فيما تهدد أنقرة بأن هذا النهج يمهد الطريق أمام تغيير الوضع الراهن.

لا سيما وأن جغرافيا الشرق الأوسط وجنوب أوروبا تشهد أوضاعا مشابهة لما كانت عليه قبل لوزان، لكن على العكس باتت تركيا تتمتع بنفوذ كبير بالمنطقة عبر قواها الناعمة والخشنة أيضا، لدرجة أنها أصبحت بالميدان في دول كقبرص والعراق وسوريا وليبيا والصومال وأذربيجان، فضلا عن كونها ضامنا سياسيا مهما بالبلقان.

كما أن جدل لوزان يأتي قبل أشهر من انتخابات برلمانية ورئاسية مصيرية ستحدد رؤية الجمهورية التركية ومستقبلها في مئويتها الثانية، وسط وعود كثيرة من مختلف الأطراف السياسية التركية بصورة جديدة لدولة أقوى سياسيا واقتصاديا.

أردوغان لا يمزح

وفي هذا الإطار، نشر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رسالة في 24 يوليو/تموز 2022، بمناسبة الذكرى السنوية الـ99 لتوقيع معاهدة لوزان جنوبي سويسرا، في نفس اليوم عام 1923، بين الحلفاء وتركيا المنتصرة ضد اليونان في حرب الاستقلال (1919 - 1923).

وفي رسالته التي اطلعت عليها "الاستقلال"، وجّه أردوغان انتقادات حادة إلى اليونان، متهما إياها بانتهاك معاهدة لوزان التي تحكم العلاقات بين البلدين منذ نحو قرن من الزمن.

وقال أردوغان: "الشروط المسجلة في المعاهدة، لا سيّما حقوق الأقلية التركية المسلمة، جرى تجاهلها أو تآكلها عمداً، ولا يمكن لبلدنا قبول هذا الوضع، الذي لا يتوافق مع علاقات حسن الجوار وبنود الاتفاقية".

وأشار إلى أن معاهدة لوزان تعد من الوثائق التأسيسية للجمهورية التركية، وجرى عبرها ترسيم الحدود البرية للبلاد وضمان حقوق الأقلية التركية باليونان وتأكيد الوضع غير العسكري للجزر القريبة من سواحل تركيا.

وأكد أن تركيا بينما تمضي بخطوات ثابتة نحو 2023 لا يمكن أن تقبل تجاهل اليونان لبنود المعاهدة، مشددا في الوقت ذاته على بذل بلاده كل جهد لإحلال السلام مع حماية حقوق شعبها وتعزيز مكانتها المؤثرة في القضايا الإقليمية والعالمية.

وفي 9 يونيو/حزيران 2022، خلال حضوره مناورات "أفس 2022" بولاية إزمير  على ساحل بحر إيجة التركي قبل عدة أسابيع، طالب أردوغان وفي لهجة شديدة الحدة، اليونان، بالتحلي بالحكمة والابتعاد عن "التصرفات والأحلام التي ستؤول إلى الندم".

وقال أردوغان وفق موقع الرئاسة التركية: "ندعو اليونان إلى وقف تسليح الجزر التي ليس لها وضع عسكري، والعمل وفق الاتفاقيات الدولية، أنا لا أمزح، أنا أتحدث بجدية. هذه الأمة عاقدة العزم، وإذا قالت شيئا فإنها تنفذه".

وأكد أن تركيا لن تتنازل عن حقوقها في بحر إيجة، ولن تتوانى عن استخدام الصلاحيات المعترف بها في الاتفاقيات الدولية بشأن تسليح الجزر.

وأوضح أن بلاده تركت لتقدير المجتمع الدولي تقييم مطالبتها بالنظر في الحدود البحرية للبلدية حول جزيرة ميس التي تبعد كيلومترين عن البر الرئيس لتركيا، وأكثر من 600 كيلومتر عن اليونان.

وتابع أن "اليونان رغم كونها عضوا في الاتحاد الأوروبي، لا تزال تضغط على الأقلية التركية في غرب تراقيا ورودوس واستان كوي، متجاهلة قيم التكتل وحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية".

اتفاقية مؤثرة

وقّعت معاهدة لوزان في 24 يوليو 1923 بين ممثلي المجلس الوطني الكبير (البرلمان) التركي من جهة، وممثلين عن بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا وبلغاريا والبرتغال وبلجيكا ويوغوسلافيا من جهة أخرى، وفق بيان تركي رسمي نشرته وكالة الأناضول.

وتتكون المعاهدة التي توصلت "الاستقلال" إلى نسخة منها، من 143 بندا ومقدّمة و4 فصول مدونة في 357 صفحة، ودخلت حيّز التنفيذ في 23 أغسطس/آب 1923، عقب التصديق عليها من قبل البرلمان التركيّ.

ونصّت أبرز بنود المعاهدة على تأسيس دولة تركيا وتحديد حدودها، وحماية الأقليات المسيحية اليونانية فيها، مقابل حماية الأقليات المسلمة التركية في اليونان، كما احتوت بنودا تتعلق بتنظيم وضع أنقرة الدولي الجديد، وترتيب علاقتها بدول الحلفاء المنتصرين في الحرب.

كما تضمنت تنازل الدولة التركية نهائيا عن ادّعاء أيّ حقوق سياسية ومالية وسيادية في مناطق الشام والعراق ومصر والسودان وليبيا وقبرص، فضلا عن تنظيم استخدام المضائق البحرية التركية في وقت الحرب والسلم.

وعبر المعاهدة، ضمنت تركيا اعترافا دوليا بسيادتها واستقلالها، كما أنها ألغت أحكام معاهدة "سيفر" التي كانت الدولة العثمانية قد وقّعتها في 10 أغسطس 1920، عقب هزائمها أمام الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.

وبينما يرى حزب الشعب الجمهوري (علماني) وأنصاره أن لوزان تمثل انتصارا لدولة تركيا الحديثة ومؤسسها مصطفى كمال أتاتورك (أول رئيس للجمهورية) ورفيقه وخليفته عصمت إينونو، يؤكد أتراك كثيرون أن المعاهدة أضرت كثيرا بمصالح أنقرة، وأفقدتها كثيرا من أراضي الدولة العثمانية.

ولعل أبرز التصريحات في هذا الإطار، صدرت عن أردوغان خلال اجتماعه بمجموعة من المخاتير بأنقرة في 29 سبتمبر/ أيلول 2016، إذ قال إن "البعض يحاول إظهار اتفاقية لوزان على أنها انتصار، انظروا إلى إيجة، نصف جزرها منحناها لليونان في اتفاقية لوزان، أهذا انتصار؟".

وأضاف: "هذه الجزر ملك لنا، لدينا مساجد ومعابد هناك، فضلا عن حقوقنا المتعلقة بالحدود الجوية والبحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، ولا نزال نكافح من أجل ذلك، لماذا؟ لأن من جلسوا على تلك الطاولة (إينونو) فشلوا في التوصل لمعاهدة عادلة".

ووصل الأمر بانتقاد لوزان، إلى دعوة أردوغان من عقر دار اليونان إلى تحديث المعاهدة، ما تسبب في جدل كبير بين البلدين.

وجاء ذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك لأردوغان مع نظيره اليوناني بروكوبيس بافلوبولوس، على هامش زيارة إلى أثينا أجراها في 7 ديسمبر/كانون الأول 2017، كانت الأولى من نوعها لرئيس تركي منذ 65 عاما.

وقال أردوغان إن معاهدة لوزان الموقعة بعد الحرب العالمية الأولى، تنص على "تفاصيل دقيقة ما تزال غير مفهومة حتى الوقت الراهن"، مشيرا إلى ضرورة تحديثها.

ليرد عليه بافلوبولوس بالقول إن "لوزان معاهدة لا تترك أي ثغرات في العلاقات الثنائية، ولا تتطلب إكمالا ولا تتضمن أي غموض حول الحدود أو العلاقات الإقليمية، نحن نرفض مناقشتها أو مراجعتها أو إصلاحها".

في مقابل ذلك، ذكر أردوغان أن "هذه معاهدة صُدق عليها قبل 94 عاما، وتركيا واليونان ليستا الأطراف الوحيدة في هذه المعاهدة".

وأردف: "هناك 11 دولة موقعة عليها، وخلال 94 عاما، جرى إنشاء نظام عالمي جديد كليا وحدث تغير كبير في العلاقات بين تركيا واليونان".

مستقبل غامض

وعلى عكس الشائعات المتداولة عربيا وتركيا، فإن المعاهدة لا تنتهي بعد مرور 100 سنة، ولا تحتوي على أي مواد فيها تحدد فترة سريانها، ولا تمنع أنقرة من استخراج مواردها الطبيعية.

لكن مراقبين يرون أن انتقادات تركيا ودعواتها المتصاعدة في الآونة الأخيرة تهدف مراجعة معاهدة لوزان، مؤكدة فشلها في حماية الأقلية التركية في اليونان وحماية الجرف القاري للبلاد، تخبئ وراءها أهداف أخرى.

وتدعم هذه القراءة، مساعي تركيا لترسيم حدودها البحرية مع دول الجوار مثل ليبيا ومصر وإسرائيل، بعدما جرى الكشف عن كميات ضخمة من الهيدروكربون في شرق البحر المتوسط.

وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، منتصف يونيو 2022، أن "اليونان انتهكت شرط عدم تسليح الجزر في بحر إيجة، وإن لم تتراجع عن هذا الانتهاك فإن سيادتها عليها ستكون محط نقاش"، ما قوبل بتنديد من قبل الخارجية اليونانية واصفة ذلك بـ"التهديد المباشر".

وبعد ساعات من تصريحات تشاووش أوغلو، بعثت الخارجية اليونانية رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، دعت فيها تركيا إلى وقف التشكيك بسيادة بلادها على جزرها في بحر إيجة، كما طالبتها "بالامتناع عن الأنشطة غير المشروعة التي تنتهك سيادة اليونان".

وفي نفس الإطار، نشر دولت باهتشلي رئيس حزب الحركة القومية والحليف السياسي لحكومة أردوغان خريطة تظهر جميع جزر شرق بحر إيجة، إلى جانب كريت أكبر جزيرة باليونان، كأرض تركية.

وعلق رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بالقول: "ألقوا نظرة فاحصة على هذه الخريطة التي تضم جزر كريت، ورودس، وليسفوس، وخيوس، وساموس كأراض تركية".

وتساءل عبر تويتر في 11 يوليو: "هل هذا مجرد حمى حلم المتطرفين أم سياسة تركيا الرسمية؟ هل هذا استفزاز آخر أم هدف حقيقي؟" وفق وصفه، مطالبا الرئيس أردوغان بتوضيح موقفه بشأن هذه "الآراء الغريبة" من قبل شريكه الأصغر في الائتلاف الحكومي.

ورغم أن تركيا واليونان عضوان بحلف شمال الأطلسي "ناتو"، الذي عاد إلى الحياة من جديد ليضبط صفوفه ويعزز وحدته مع غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، فإن تاريخ الصراعات الدموية والصفقات السياسية غير العادلة، دوما ما يرجع لينكأ الجروح القديمة بين البلدين.

وكلا البلدين على خلاف منذ عقود بشأن عدة قضايا، في مقدمتها الحدود البحرية، وقوبلت أنشطة التنقيب التركية في 2020، بإعلان الجيش اليوناني حالة التأهب، ثم هدأ الأمر لاحقا بمباحثات لم تسفر عن تطور ملحوظ.

بالإضافة إلى قضايا المجال الجوي، والهجرة غير النظامية، والأقليات العرقية، وأزمة قبرص المقسمة إلى شطرين تركي ورومي، فضلا عن تحول اليونان أخيرا لملاذ آمن لأعضاء تنظيمات تصنفها أنقرة "إرهابية"، مثل حزب العمال الكردستاني "بي كا كا"، و"غولن" المسؤول عن محاولة انقلاب 2016.

وردا على "تحريض" رئيس الوزراء اليوناني ميتسوتاكيس خلال زيارته واشنطن في 16 مايو/أيار 2022، أعلن أردوغان في الثالث والعشرين من ذات الشهر، إلغاء اجتماع المجلس الإستراتيجي المشترك مع أثينا، الذي كان من المخطط عقده في وقت لاحق من 2022، بمدينة سلانيك اليونانية.

وبينما يستبعد محللون كثيرون قبول الأطراف الموقعة على معاهدة لوزان إجراء تغييرات بها، رأى أستاذ القانون في جامعة "هاجتبه" التركية أونور أوراز، أن الإجراءات أحادية الجانب التي تتخذها اليونان في المنطقة من قبيل توسيع مياهها الإقليمية توفر لتركيا حق الدفاع عن سيادتها.

وأضاف في مقال نشرته وكالة الأناضول في 21 يونيو 2022، أن موافقة البرلمان اليوناني على مشروع قانون لتوسيع المياه الإقليمية للبلاد من 6 أميال إلى 12 ميلا (في يناير/ كانون الثاني 2021) يمكن لتركيا أن تعدها قانونا سببا للحرب، للدفاع عن نفسها.

وأوضح أنه لطالما جرى التوقع أن تحل المشاكل بين تركيا واليونان بالطرق السلمية، لكن حقيقة عدم جدوى المفاوضات التي استمرت لسنوات، وثقة أثينا الزائدة بقدراتها، وعدم القدرة على عرض الأمر على القضاء الدولي دون موافقة الطرفين لا يجعل الحل السلمي ممكنا حاليا.

وشدد الخبير القانوني التركي على أنه لا شك في أن مواصلة اليونان تسليحها للجزر القريبة من تركيا، يعد انتهاكا سافرا للقانون الدولي، كما أنه لا شك أن هذه الأنشطة العسكرية تمثل تهديدا واضحا لسيادة أنقرة.

وختم البروفيسور أوراز بالقول إنه يتوجب على تركيا في حال أجبرتها الظروف على استخدام القوة أن تعد وتعالج الأدلة والحجج القانونية التي تضمن وتبرز شرعية تحركاتها وتنقلها بعناية إلى المجتمع الدولي.