بعد 9 سنوات من الثورة.. المشهد السوري في مفترق طرق
مدخل
جدد التصعيد العسكري الروسي الأخير التوتر بين طرفين مهمين جداً في الشأن السوري هما الروس والأتراك، اللذان عقدا خلال الفترة الماضية عدة لقاءات ضمن مساري حل عسكري وسياسي تبلور عنهما اتفاقان وعدة تفاهمات شكّلت الركيزة الأساسية لتحركهما في الشأن السوري (اتفاق سوتشي واتفاق أستانة).
اليوم يتجدد الخوف من تفجر الأوضاع من جديد والعودة بالمشهد السوري إلى ما قبل سنتين أو ثلاث عندما كان السوريون يسقطون بالعشرات بل وبالمئات يومياً وعندما كان الآلاف ينزحون أو يلجؤون إلى دول الجوار يومياً وسط ظروف إنسانية مأساوية وغياب أي أمل بحل قريب.
وبقدر ما تبدو الأحداث التي تجري في سوريا خاصة بسوريا والسوريين، إلا أنها في الحقيقة ليست إلا المظهر الأبرز لحرب أكبر بين القوى الإقليمية والدولية، التي تتبارز فيما بينها على رسم شكل المنطقة -بما فيها سوريا- كل وفق رؤيته ومصالحه.
تتناول هذه الورقة ديناميات الصراع في سوريا، وتناقش آخر التطورات التي تتضمن التصعيد الروسي الأخير، وقرار ترامب بالانسحاب وإعلان إسرائيل سيطرتها على الجولان، والقرار التركي بالبقاء في سوريا وتعزيز وجودها هناك، وتحركات الميليشيات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، ومحاولة التحول إلى الشكل الدولاتي ووضع النظام السوري -أو ما بقي منه- وحقيقة قدرته على الإمساك بزمام الأمور، والدور الإيراني في سوريا وحالة التنافس بينه وبين الروس والحلول المطروحة للمشهد السوري، تناقش هذه الورقة تطورات هذه الملفات وانعكاساتها على السيناريوهات المتوقعة لوضع سوريا والمنطقة.
اللاعبون الفاعلون: متنافسون ومتشاكسون
على مدار الأعوام الثمانية الماضية لم يتمكن الروس والأمريكان من التوصل إلى مقاربة مقبولة لكليهما بالنسبة للمشهد السوري الذي سار وفق إيقاع التوافق والخلاف بين كلا القوتين الكبيرتين.
استمرار الصراع بهذا الشكل بين الطرفين أعطى الفرصة للأطراف الإقليمية وخصوصاً تركيا وإيران واسرائيل، للعب دور أكثر فاعلية ولكن ليس وفق حدود دقيقة وأدوار مضمونة، وبالتالي اتسمت تحركاتهم بالتخبط والمبالغة في ردة الفعل في كثير من الأحيان، وما زال هؤلاء اللاعبون الإقليميون يخوضون نوعاً من الصراع على ضمان مصالحهم ونفوذهم وسط مخاوف متجددة بأن تفضي عملية التشكل الجديد للمشهد السوري والمنطقة إلى إخراجهم من دائرة التأثير.
السلوك الإيراني مثال مهم على حالة المبالغة والتوتر التي يتحرك بها أحياناً الفاعل الإقليمي في سوريا، فأظهرت إيران توتراً واستعجالاً لحجز موقعها وتحركت بشكل مغامر، فتحرشت بتركيا مستهدفةً الرتل الذي أرسلته تركيا لتأسيس نقطة لمراقبة اتفاق خفض التصعيد في حلب[1]، كما شاركت في المحاولة الفاشلة للتحرش بالأمريكيين شرق دير الزور، وتحرشت مراراً بإسرائيل عبر إرسال الطائرة المسيَّرة لاختراق حدودها. وكأنها تريد أن تقول للاعبين الكبار -روسيا والولايات المتحدة- أنها لديها أقدامٌ راسخة في سوريا وأنها ليست في معرض ترك مصالحها هناك، وأنه إذا كانت هناك عملية إعادة تشكل أو تغيير في قواعد اللعبة في المنطقة فإن قواعد اللعب مع إسرائيل هي ما سيتغير.
وبطبيعة الحال فإن التحرك الإيراني في سوريا لا يتصادم مع أدوار الفواعل المناوئين للنظام فقط ولكنه أيضاً يحتك بشكل يرقى للصدام أحياناً مع الروس الذين يخوضون ما يشبه الحرب الباردة مع الإيرانيين على السيطرة على مرافق الدولة السورية واختراقها بعد أن أصبح النظام في سوريا مرتهناً بشكل كبير للجهات الداعمة له.
وفي معرض هذا التنافس يتبارى الإيرانيون والروس على الحصول على عقود طويلة الأمد تمتد لعشرات السنين لإدارة الموانئ السورية والمطارات وطرق النقل والعديد من القطاعات الخدمية، ويأخذ هذا التباري منحى أكثر حساسية وتعقيداً في حالة القطاع العسكري والأمني إذ يحاول الطرفان التحكم بمفاصل الجيش والقوى الأمنية وتحويلها إلى تشكيلات تابعة لهذا الطرف أو ذاك.
حالياً بات يشار علانية لتشكيلات الجيش السوري بحسب تبعيتها فيقال الفرقة الرابعة التابعة للإيرانيين والفرقة الخامسة التابعة للروس والأمر نفسه بالنسبة للتشكيلات الأمنية، وبلغ الأمر تقاسم الضباط والكوادر الفاعلة في هذه المؤسسات وتحديد تبعيتها[2].
بالنسبة لتركيا، فإن أي تنازل في سوريا سيعني تنازلاً عن الدور الإقليمي، وهي أصلاً في وضع حرج بعد تراجع أهمية ارتباطها بحلف الناتو، وتضاؤل احتمالية ضمها للاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإنها تواجه معضلة حقيقية في إثبات أحقيتها بلعب دور إقليمي ودولي في المنطقة والعالم، وتمكنت تركيا بالفعل من حجز موقع لها في المنطقة الشمالية من سوريا تحت مبرر حفظ أمنها القومي، وعدم رغبتها بوصول نظام الأسد لحدودها التي ترى فيها خطراً أمنياً عليها، والخوف من موجات نزوح كبيرة، تتضمن وصول أعداد جديدة خصوصاً وأن المنطقة الشمالية تكتظ بأعداد كبيرة من السكان تصل إلى أكثر من 3 ملايين نسمة.
أما إسرائيل فإنها تعيش حالة من صراع الموازنة بين الدور الإستراتيجي والتكتيكي في سوريا، فبالإضافة إلى إمكانية توجيهها ضربات عسكرية على قوافل حزب الله أو النقاط الإيرانية أو مخازن الأسلحة التي تفترض أنها قد تستخدم ضدها من قبل مختلف الأطراف في سوريا، إلا أنها وعلى المستوى الإستراتيجي تريد أن يكون لها تأثير مناسب في صياغة مستقبل سوريا والمنطقة، وفي سبيل ذلك عقدت عدة لقاءات مع الروس تم طرح فكرة إشراك إسرائيل في اللقاءات التي تعقد بخصوص مستقبل سوريا، كما جرت عدة خطوات في سبيل تنسيق التحركات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، وتلقت وعوداً من الجانب الروسي تحديداً بخصوص تحييد الدور الإيراني، ولكن معظم هذه الخطوات وخصوصاً منها الوعود بتحييد الإيرانيين لم يتم المضي بها كما يجب أو كما يريد الإسرائيليون[3].
وهو ما يرجح أن التصعيد الإيراني- الإسرائيلي الذي ينشط بين الفينة والأخرى في حقيقته ما هو إلا محاولة لتوريط اللاعبين الكبار ودفعهما لبلورة وتطوير مواقف أكثر حدّة ووضوح من الخلاف الإيراني الإسرائيلي، فبينما تسعى إسرائيل لدفع الولايات المتحدة لمواجهة مباشرة مع إيران وشمل التحركات العسكرية الإسرائيلية في سوريا ضمن سياق الحرب الأمريكية على النفوذ الإيراني في المنطقة، تراهن إيران على توريط روسيا في موقف ضد حليف الولايات المتحدة الأهم في المنطقة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى العديد من المناسبات والأحداث التي شهدت تصعيداً بين الإيرانيين والإسرائيليين أو بين الأتراك والنظام أثبتت أن قدرة الروس والأمريكان على فرض شيء على الفاعلين المحليين والإقليميين ليست حاسمة، وأن استجابة هذه الأطراف الإقليمية لتأثير وتوجهات الفاعلين الدوليين الكبار وخططهم هي استجابة مؤقتة، وهو ما يعني أن احتمالية وقوع حرب ومواجهة واسعة بين الأطراف الإقليمية المتنازعة ليست مستحيلة إذا ما اعتقد بعض أو أحد هذه الأطراف أن المواجهة ستجلب له منفعة متوقعة أو أن مصالحه ومكتسباته في خطر[4].
لكن الحديث عن مواجهات واسعة أو حرب بين الأطراف لا يعني حرباً بالمعنى الحقيقي الذي اعتدنا عليه للحروب؛ وإنما يعني حرباً من شاكلة الحروب التي يحاول كل طرف تصميمها وفق مقاساته وشروطه، بما يتوافق وقدراته، ويتناسب مع مزاياه العسكرية والقتالية، فمثلاً تميل إيران إلى أن تكون حربها مع إسرائيل حرباً برية في جنوب سوريا، حيث الطبيعة الجغرافية الملائمة للإيرانيين وطبيعة الحروب التي يتقنونها، ولذلك تحرص إسرائيل في كل المناسبات على إبعاد إيران عن هذه التضاريس ودفعها للوجود بعيدا عن أي حدود أو نقاط وجود إسرائيلية ووضع جهات فاصلة، ما يمنع نشوب حرب برية بين الطرفين.
بينما ترغب إسرائيل في خوض حرب جوية على أساس بنك أهداف موضوع مسبقاً[5]، مع ضمان صمْت روسيا على الأقل، والحصول على دعم لوجستي أمريكي أو حتى مشاركة بالعتاد والكوادر، تحاول إيران باستمرار تثبيت وجود قريب لها من إسرائيل بما يسمح لها بتحويل أي حرب تنشأ معها إلى حرب برية وليس فقط جوية[6].
وفي خضم كل هذه الفوضى والتعقيد تجد إسرائيل الفرصة سانحة لتثبيت وجودها في مناطق النزاع وفق ما يلائمها وهو ما قامت به عندما أعلنت بسط سيطرتها على مرتفعات الجولان، وإعلانها جزءاً من إسرائيل يدعمها في ذلك الإدارة الأمريكية التي تعتبرها الحليف الأهم والأقرب في المنطقة[7].
في كل الأحوال فإن كل الأطراف تميل في الوقت الحالي لعدم حصول حرب في سوريا سوى تلك الحرب القائمة ضد فصائل المعارضة، فالحرب ضد المعارضة رغم كل تعقيداتها وملابساتها، مبرر مناسب وكبير لتدخل الأطراف، وفي نفس الوقت فإن توسعها إلى أطراف غير المعارضة السورية، أو قيام حرب أخرى في سوريا بين الأطراف سيؤثر بشكل كبير على مكتسبات كل طرف الحالية، وربما يمنع مكتسبات مستقبلية أخرى.
الولايات المتحدة وسعيها لفرض رؤيتها للحل في سوريا
في قرار مفاجئ، وعلى إثر مكالمة هاتفية بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان، أعلن ترامب في 19 كانون الأول/ديسمبر 2018 قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا والبالغ عددها في ذلك الوقت بحدود 2000 جندي بعد نحو 3 سنوات من وجودها هناك، حيث قال ترامب إن السبب الوحيد لوجود القوات الأمريكية في سوريا هو هزيمة تنظيم داعش. وهو الهدف الذي تحقق فعلاً بحسب رأي ترامب[8].
كان من المفترض أن يمثل القرار مناسبة لعودة العلاقات إلى طبيعتها بين تركيا والولايات المتحدة، وهو ما كان سيشكل تحولاً كبيراً في ميزان القوى في المشهد السوري، وإعادة النظر في طبيعة وعمق العلاقات التركية الروسية التي يتحفظ البعض على الإشارة إليها بمصطلح "التحالف" حتى اليوم ويعتبرونها علاقة مؤقتة قائمة على المصالح المشتركة بين البلدين[9].
إلا أن جهات من داخل الإدارة الأمريكية أقنعت ترامب بأنه إذا كان مصراً على المضي بقرار الانسحاب فيجب عليه تغيير آلية تنفيذه، بحيث يضمن عدم تعرض تركيا للميليشيات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة وأن لا يكون لقرار الانسحاب تبعات على إسرائيل[10]، وأن على تركيا مشاركة "قوات سوريا الديمقراطية" في إدارة المناطق التي ستنسحب القوات الأمريكية منها (شرق الفرات)، وهو ما لاقى اعتراضاً كبيراً من الجانب التركي وحوّل القرار إلى محطة جديدة من محطات التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا، ودفع بتركيا للمضي قدماً في الابتعاد عن الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة والتعاون أكثر مع روسيا، تمثل ذلك في مضي تركيا بقرار شراء منظومة [11]S400.
العلاقة مع تركيا ليست هي فقط ما تأثر بفعل القرار وآلية تطبيقه، ولكن وضع القوات الأمريكية في سوريا التي تم تقليص عددها بدلا من انسحابها ما جعلها عرضة لخطر الهجوم من داعش أو غيرها من المجموعات المسلحة الموجودة على الأرض السورية والمعادية للولايات المتحدة بما فيها بعض المجموعات المرتبطة بإيران.
كما أن الوضع المرتبك للعلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا والتردد الأمريكي في الانسحاب من سوريا بالشكل الصحيح، يوفر الفرصة لعناصر داعش، لإعادة ترتيب الصفوف، ويضع الأطراف المختلفة بما فيها الطرف التركي أمام خيار الانفتاح على النظام في سوريا أكثر من أي وقت مضى، وفي نفس الوقت يعطي الفرصة لروسيا وإيران لدعم مصالحهما وتنفيذ رؤيتهما حول سوريا والشرق الأوسط.
لذلك يمكن القول أن الطريقة المفاجئة للإعلان عن القرار ليست مصدر الإرباك الوحيد، ولكن فكرة الانسحاب بحد ذاتها والآلية التي تم فيها الانسحاب فتحت الباب على مصراعيه على مجموعة كبيرة من الأسئلة، وأثارت التوجس من مختلف الأطراف وسلطت الضوء على حقيقة الدور الأمريكي في المسألة السورية ككل.
بدأ وجود القوات الأمريكي في سوريا أواخر 2015، ثم ما لبث أن ازداد ليصل إلى 500 جندي نهاية 2016، ثم ازداد العدد حتى وصل إلى 2000 جندي أواسط 2018 وفي 19 كانون الأول/ديسمبر 2018 أعلن ترامب قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا، ثم عاد وكرر في 7 كانون الثاني/يناير 2019: أن خطته الأولية لسحب القوات العسكرية من سوريا لم تتغير، بعدها بفترة قصيرة (22 شباط/فبراير 2019) قال ترامب إنه عدّل خطة الانسحاب وقرر الإبقاء على 400 جندي أمريكي في سوريا 200 منهم في شرق الفرات و200 آخرين في المنطقة قرب قاعدة التنف.
وبحسب ما كتب "بريت ماكغورك"، فإن الأهداف الأساسية لإستراتيجية التحالف في سوريا -التي تعد القوات الأمريكية عمودها الفقري- تتلخص بمنع عودة داعش، ومراقبة طموحات تركيا، واحتواء الوجود الإيراني، وردع تهديداتها لإسرائيل، واستخدام الدبلوماسية لزراعة "إسفين" بين طهران وموسكو، والتفاوض مع روسيا على تسوية مناسبة[12].
ولكن ومع مغادرة القوات الأمريكية لسوريا، تم تقليص هذه الأهداف الأساسية إلى "منع داعش من الظهور مجدداً"، و"منع إيران من إقامة وجود عسكري محصن يهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها (إسرائيل)".
كان التحدي الحقيقي أمام المؤسسات الأمريكية هو كيفية القيام بالانسحاب دون أن يكون له أثر على أهداف ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة، أي كيف يمكن أن تنسحب الولايات المتحدة عسكرياً دون أن ينعكس ذلك على قدرتها على التأثير على مجريات الأمور في سوريا.
أحد الخيارات التي كانت مطروحة في ذلك الوقت ومازالت يتضمن أن تحل قوات تابعة لأعضاء "التحالف ضد داعش" من الدول الأوروبية محل القوات الأمريكية المنسحبة، ولكن ذلك لم يحدث ولا يبدو أنه سيحدث.
بالنسبة لتركيا كان هذا يعني أن الولايات المتحدة لم تعد في معرض الصدام مع تركيا وإضعاف دورها في المنطقة، وبدلاً من ذلك سيكون عليها التعاون مع تركيا والتنازل لشروطها.
أما بالنسبة لروسيا فإن الانسحاب يمثل الارتياح من ورقة ضغط لصالح الولايات المتحدة كان من الممكن أن تعطي أفضلية معينة للولايات المتحدة أمام الروس لدى التفاوض على تسوية حول المصير النهائي للأراضي الواقعة في منطقة النفوذ الأمريكية.
بدأ الدبلوماسيون الأمريكان في خريف 2018 الاستعداد لمفاوضات مكثفة مع الروس على مسارين: الأول "مسار جنيف" والذي كانت واشنطن تأمل من خلاله أن يقوم الروس بإجبار النظام السوري على التعاون لتنفيذ مقررات هذا المسار والتي تدعمها الأمم المتحدة.
أما المسار الثاني فقد كان يتضمن تفاوضاً مباشراً مع الروس للتوسط في صفقة بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والنظام السوري تتضمن عودة النظام بشكل جزئي للمناطق الواقعة تحت سيطرة "قسد" في مقابل منح حق القرار السياسي الأساسي لقسد. وهو ما اعتبره المسؤولون الأمريكيون "عودة الدولة، وليس عودة النظام". مع التأكيد على أن أي اتفاق يجب أن يتضمن ما من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بالوصول إلى المجال الجوي والمنشآت العسكرية الصغيرة في هذه المنطقة (شرق الفرات) من أجل استمرار الضغط على داعش ومنع التنظيم من العودة.
في البداية اعتقد الكثيرون أن قرار الانسحاب شكّل ضربة قاضية لهذه الخطط والإستراتيجيات الأمريكية وفتح المجال أمام مخططات وإستراتيجيات الأطراف الأخرى لتأخذ مداها بما فيها المعادية للولايات المتحدة التي من المتوقع أن تستفيد من انسحاب الولايات المتحدة لتحاول التمدد وسد الفراغ مثل إيران وداعش، هو الأمر الذي تعهدت تركيا بمنع حدوثه وضمان عدم حصوله، ولكن القرار تحول بشكل دراماتيكي من فرصة للتعاون وحلحلة الملف السوري وإعادة الوزن للفاعل التركي إلى محطة للخلاف وتوتر العلاقة بين البلدين.
حاولت تركيا بشتى الوسائل تصحيح المسار وإعادة الأمور إلى نصابها عبر فتح قنوات حوار مباشر بين ترامب وأردوغان، حيث يعتقد الأتراك أن الحوار المباشر مع ترامب يمكن أن يكون له نتائج إيجابية على اعتبار أن هناك فرق بين الحديث مع ترامب والحديث مع رجال ترامب، مستندين إلى بعض الشواهد والمناسبات التي أدّى الحديث المباشر فيها بين الرئيسين إلى تطور إيجابي من نوع ما، ونوّه الرئيس أردوغان إلى ذلك أحياناً مثل التصريح الذي قال فيه: "يمكننا الحصول على نتيجة من المحادثات مع السيد ترامب، وهذا ما لم يكن متاحًا في السابق"، كما دعا الرئيس أردوغان ترامب لزيارة أنقرة.
كما قدمت تركيا عدة مبادرات اعتبرتها خطوات تشجيع من قبلها للدفع بالولايات المتحدة للمضي في التعاون معها والقبول بشروطها، البادرة الأولى تمثلت بإبداء استعدادها لشراء منظومة باتريوت الأمريكية، بدل المضي بشراء منظومة S400 الروسية، والثانية: تعهد تركيا واستعدادها لمحاربة أي ظهور لتنظيم داعش في سوريا ومنع عودته من جديد، هذا عدا عن مبادرات أخرى على الصعيد التجاري تتضمن رفع التعاون التجاري بين البلدين.
كلا المبادرتين لم تلقيا الاهتمام الكافي من الولايات المتحدة ولم تشكّلا دافعاً فعلياً للتعاون مع تركيا والاعتماد عليها بدل الميليشيا الكردية، وبدلاً من ذلك استمرت الولايات المتحدة في سياسة الاعتماد على الميليشيات الكردية في سوريا لمحاربة داعش وما زالت تمدها بالدعم والسلاح[13].
وبالتالي عادت تركيا للتلويح بمخاطرة عدم التنسيق معها وتجاوزها، وتؤكد على أن تجاوز تركيا في المسألة السورية يعني دوراً أكبر لروسيا وهو ما قد يفضي إلى وقوع الشمال السوري وباقي مواقع المعارضة بيد النظام في سوريا وإيران.
كنتيجة لهذا المسار ثبتت تركيا صفقة شراء منظومة الدفاع الصاروخي S400، وعادت لتفعيل مسار أستانة رغم الجولات الأخيرة الفاشلة ورغم التصعيد الروسي الذي من المفترض أنه يطلق رصاصة الرحمة على هذا المسار التفاوضي.
وتلوح تركيا بين الفينة والأخرى بخيار الحملة العسكرية واحتمالية قيامها باجتياح واسع على الحدود الجنوبية التركية، ولكن ورغم أن التواجد الميداني الأمريكي في المنطقة قليل نسبياً، لكن من الواضح أن تركيا لا يمكنها المخاطرة بحدوث صدام عسكري من أي نوع مع القوات الأمريكية، وهو ما يشكّل عائقاً أمام القيام بأي عمليات عسكرية تركية في المنطقة ويقلل كثيراً من احتمالية المضي بهذا الخيار على الأقل ضمن المعطيات الحالية للوضع في سوريا وتركيا.
التحرك الأمريكي المهم الذي يجب تناوله في سياق الانسحاب الأمريكي العسكري من شرق سوريا، هو عودة الولايات المتحدة للتدخل من جديد في ملف الشمال السوري، بعد أن حرصت على تثبيت واقع وجود الميليشيا الكردية ودعمتها بشكل غير مباشر في محاولات تحولها إلى شكل من الإدارة المحلية الواسعة في المنطقة التي تنتشر فيها.
تدخّل الولايات المتحدة في ملف الشمال السوري بعد التصعيد العسكري الروسي الأخير يعني أن الولايات المتحدة تلعب بالقرب أكثر من باقي الأطراف، وأنها تود أن تعوض فرص التأثير التي ربما تكون قد خسرتها بالانسحاب من شمال شرق سوريا، من خلال التفاعل مع الأحداث مع منطقة الشمال السوري حيث الاحتكاك المباشر مع الوجود التركي والروسي والمعارضة السورية التي تواجه حملات النظام والميلشيات الإيرانية.
تمثّل التدخل الأمريكي بالمتابعة المباشرة للتحركات في المنطقة إلى جانب تركيا وإعطاء الضوء الأخضر لفصائل المعارضة لاستخدام أسلحة نوعية مضادة للدروع لم يكن من المسموح امتلاكهم أو استخدامهم لها في السابق بدعوى إمكانية استخدامها ضد أطراف حليفة للولايات المتحدة أو بدعوى الخوف من تسربها لجهات معادية مثل تنظيم "داعش"، وتعدى الأمر ذلك للتلويح بإمكانية السماح لهذه الفصائل بالحصول على مضادات طيران لاستخدامها في حربهم ضد الروس والنظام، وهو ما سيشكل تغييراً كبيراً في ميزان القوى لصالح فصائل المعارضة السورية[14].
هذا الدور الجديد الذي تتحرك به الولايات المتحدة سيعطيها قدرة على التأثير في أي مسار مستقبلي في سوريا إلى جانب الأطراف الأخرى وسيمنع الطرف الروسي بالذات من تجاوز الرغبات الأمريكية وسيعطي الولايات المتحدة دوراً أكبر في سعيها لفرض رؤيتها للحل في سوريا.
الدور الكردي: حراك منفصل وإدارة ذاتية
أدت تفاعلات الأحداث الداخلية والإقليمية في سوريا والمنطقة إلى تقسيم الكرد إلى تيارين يحاول التيار الأول تبني الاتجاه الوطني ويمثله إلى حد كبير المجلس الوطني الكردي، بينما يتبنى الثاني الاتجاه القومي ويمثله حزب الاتحاد الديمقراطي[15]وقوات سوريا الديمقراطية والأذرع المرتبطة به مثل مجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية.
ظهر الانقسام جلياً بين التيارين المذكورين في عدة مناسبات ومحطات، ومؤخراً يبدو أن القسم الثاني (قوات سوريا الديمقراطية) نجح إلى حد كبير في الهيمنة على المشهد الكردي، ويسعى من خلال علاقاته الدولية وتحالفه مع الولايات المتحدة ودوره في محاربة الإرهاب (داعش)، إلى بلورة نوع من الاعتراف الشرعي به وبأذرعه الإدارية والأمنية كممثل عن أكراد سوريا، والإقرار بنموذج الإدارة الذاتية الذي أعلنه قبل أعوام وبدأ مؤخراً بفرضه كأمر واقع على المناطق الواقعة تحت سيطرته في سوريا.
تركز جهد النظام بالنسبة للأكراد، في مرحلة الثورة على تحييدهم وفصل حراكهم عن باقي المكونات السورية من خلال إبداء مرونة كبيرة تجاه نشاطات الأكراد السلمية ونشطائهم، ومنحهم ميزات معينة من جهة، والتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي من جهة أخرى بإعطائه الضوء الأخضر للتصرف في المناطق الكردية السورية التي ينسحب منها النظام، ليقوم بالتضييق على المظاهرات التي كانت تخرج ضد النظام من قبل المجموعات الشبابية، وبمشاركة بعض الأحزاب السياسية.
أيضاً حرص النظام منذ الأيام الأولى للاحتجاجات على بث دعاية يحذر فيها من المؤامرة أو التخويف من أهداف الأكراد والتذكير بحراك الأكراد سنة 2004 المتزامن مع الغزو الأمريكي للعراق وما تبعه من أحداث وشعارات ومطالبات للأمريكان بالتدخل لإقامة فيدرالية للأكراد في سوريا وغيرها من أحداث الصدام بين المكون العربي والكردي في سوريا.
من أبرز الخطوات التي اتخذها النظام في سعيه لاسترضاء الأكراد كانت الخطوة المتعلقة بإصدار المرسوم التشريعي رقم 49 في 7 نيسان/أبريل لسنة 2011م والقاضي بمنح الجنسية العربية السورية للمسجلين في سجلات أجانب محافظة الحسكة، أي "الأكراد المحرومون من الجنسية".
وفي سياق عملية استرضاء الأكراد أيضاً، تم إطلاق عدد من السجناء الأكراد في تشرين الأول/أكتوبر 2011، وذلك ضمن اتفاقية توصّل إليها النظام في سوريا مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وذلك مقابل تعهّد قيادة الحزب بعدم السماح بالمشاركة في التظاهرات.
بقيت الأحزاب الكردية على حالة التردد في الانخراط بالاحتجاجات، حتى 26 تشرين الأول/أكتوبر 2011 عندما تشكل المجلس الوطني الكردي برعاية ودعم مسعود برزاني رئيس حكومة إقليم كردستان العراق في ذلك الوقت، وبحضور أكثر من 250 شخصية كردية مختارة[16].
ومن مراجعة مقررات وطروحات المجلس الوطني الكردي والأحزاب المشاركة فيه يتضح أن مشاركة الأحزاب الكردية في الحراك وانضمامها إلى الخندق المناوئ لنظام الأسد جاء بالتوازي مع أجندة خاصة وجملة من المطالب القومية الأحادية الجانب، وكانت تلك إشارة مبكرة إلى أن قرار المشاركة بالحراك الثوري بالنسبة لهذه الأحزاب، كان ضمن تصورات مسبقة يعتقدون أنها يجب أن تفضي إلى طرح مطالب قومية معينة.
على الأرض كان حزب الاتحاد الديمقراطي يتحرك بشكل نشط، ليقوم باختراق المظاهرات بشعارات مخالفة لشعارات الثورة المتوافق عليها بين العرب والكرد، وعمد إلى رفع أعلام ورايات حزب الاتحاد الديمقراطي، وصور عبد الله أوجلان، ابتداءً من 29 تموز/يوليو 2011 حيث ظهر إصرار على رفع رايات وشعارات كردية، بذريعة تأكيد الهوية الكردية، ورفع شعارات ولافتات تطالب بدستور جديد وسوريا ديمقراطية و"إدارة ذاتية لغربي كردستان"، وشيئاً فشيئاً تم عزل الشارع الكردي عن باقي المكونات والتركيز على الطروحات القومية للأكراد.
ومع الوقت ظهرت قوات الحماية الشعبية (YPG) التي تصاعد نشاطها القمعي والأمني بين عامي 2013 و2014 مما تسبب بصدامات بينها وبين السكان في عدة مناطق عربية وكردية في شرق سوريا[17].
تلا ذلك إعلان الإدارة الذاتية في 13 آب/أغسطس 2013 عندما أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي في مؤتمر صحفي بمدينة القامشلي عن انتهاء المرحلة الأولى لمشروع الإدارة الذاتية، وبدء المرحلة الثانية عبر تشكيل هيئة تشريعية مكلفة بتشكيل الهيئة الإدارية الانتقالية للمنطقة.
وفي 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، وبالتزامن مع إعلان المعارضة السورية عن تشكيل الحكومة الانتقالية، أعلن PYD (الاتحاد الديمقراطي) عن تشكيل ما أسماه: "الإدارة المدنية الانتقالية لمناطق غرب كردستان - سوريا"، وتشكيل مجلس عام "للإدارة الذاتية".
ثم في كانون الأول/ديسمبر 2015 وبالتزامن مع انطلاق مؤتمر الرياض الذي عقد وضم لأول مرة أطراف المعارضة السورية المختلفة بما فيها معارضة الداخل المتمثلة بهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، واستثنى حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، قام حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وتحت شعار "معاً نحو بناء سوريا حرة وديمقراطية" بتنظيم مؤتمر في بلدة المالكية التابعة لمحافظة الحسكة تحت اسم "مؤتمر قوى المعارضة السورية" (ديريك)، برعاية الإدارة الذاتية، أعلن في نهاية أعماله، عن ولادة جسم سياسي حمل اسم "مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد).
وفي نهاية شباط/فبراير 2016 قالت روسيا "إنها لن تمانع فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية في سوريا"، وعلى أثره قامت عدة قوى ومجموعات كردية معظمها متهمة بالارتباط أو التبعية لحزب العمال الكردستاني وفي مقدمتها حزب PYD، بعقد اجتماع في بلدة الرميلان التابعة لمحافظة الحسكة في 17 آذار/ مارس 2016، وأعلنوا قيام ما أسموه "الفيدرالية الديمقراطية لروجآفا – شمال سوريا".
هذه الخطوات عملياً هي دليل ليس مجرد حراك متمايز عن الحراك السوري العام ولكنها خطوات عملية لحراك وطموح منفصل بالكامل عن السياق العام للثورة السورية (2011).
وفيما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة بالنسبة لأكراد سوريا بالذات فإن العلاقة ظهرت متأخرة لأن التعامل مع أكراد سوريا طوال الفترة ما قبل 2011 كان دائما ما يمر من خلال أكراد العراق أو من خلال النظام أو من خلال التنظيمات الكردية في الدول الأخرى مثل تركيا، ونادراً ما كانت تحصل لقاءات وتعاملات من قبل الولايات المتحدة مع أكراد سوريا بشكل مباشر.
بعد ثورة آذار/مارس 2011، ظَهَرَ التحالف الأمريكي ـ الكردي بشكل رسمي بعد هجوم "داعش" على "عين العرب" (كوباني) في عام 2014، وحرص قادة أكراد سوريا على إبرازه كمجرد تقاطع للمصالح، لكن الحقيقة أن الولايات المتحدة كانت طرفاً مهيمناً في هذا التحالف ومتحكماً فيه.
سرعان ما أصبحت الميليشيات الكردية هي الخيار المفضل للولايات المتحدة ـ من بين الخيارات التي كانت متاحة آنذاك ـ في حربها ضد تنظيم "داعش"، واستفادت كثيراً هذه الميليشيات وأذرعها الأمنية والإدارية على المستوى السياسي والعسكري والمادي على الصعيد المحلي وكذلك الإقليمي والدولي من هذا التحالف.
استمرت العلاقة بين الولايات المتحدة والميليشيات الكردية بالتطور وصولاً إلى إعلان الانتصار على داعش في سوريا عقب معركة الباغوز التي شكلت نقطة مفصلية بدأت بعدها الميليشيا الكردية بترسيخ الوجود الكردي في مناطق سيطرتها بشكل من أشكال الإدارة المحلية الواسعة الصلاحيات.
تضمنت إجراءات ترسيخ الوجود، إدارة مخيم الهول للنازحين الذي ضم عوائل تنظيم داعش، وإدارة ملف عوائل عناصر داعش الأجانب، وعودتهم إلى الدول التي يحملون جنسياتها، وتفعيل دور الإدارة الذاتية وسيطرتها على الملفات المعنية بالحياة اليومية للمواطنين، والإعلان عن مشاريع مدنية والإمساك بزمام المرافق الإدارية المختلفة في المنطقة، ومفاوضة الأطراف المختلفة (النظام وتركيا والأوربيون وغيرها) للاعتراف بالإدارة الذاتية والتعامل معها ككيان شرعي حاكم في المناطق التي توجد فيها، وفتح معاهد تعليمية للغة الكردية ومراكز تجنيد وتخصيص الميزانيات الضخمة لشراء المحاصيل الزراعية من الفلاحين وإدارة عملية استخراج وبيع النفط الخام والغاز، والتحرك السياسي عبر الذراع السياسي (مجلس سوريا الديمقراطي "مسد") لمخاطبة أو مقابلة جهات دولية مختلفة ومناقشة مستقبل المنطقة والوضع في سوريا.
- اصطدمت عملية بسط النفوذ هذه والتحول إلى شكل الدولة بعدة أمور أهمها: استمرار عمليات داعش في المنطقة وتنفيذها هجمات بشكل يومي على أهداف تابعة لتشكيلات الإدارة الذاتية الكردية أو ما يرتبط بها.
- صعوبة كبيرة في كسب رضا المكون العشائري العربي في المنطقة (شرق وشمال شرق سوريا) وتصاعد التوتر بين الميليشيات الكردية والعشائر حد الاشتباك بالاسلحة.
- نقص الكوادر البشرية اللازمة لشغل المناصب والمسؤوليات المختلفة ونقص المجندين اللازمين لبناء الأجهزة الأمنية والعسكرية وإحجام المكون العربي الذي يكوّن الشريحة الأوسع في المنطقة عن العمل والمشاركة في المؤسسات والتشكيلات الكردية.
- الفشل في الحصول على اعتراف النظام أو الوصول إلى تسوية معه بسبب رفض النظام لمبدأ الإدارة الذاتية والصلاحيات الواسعة التي تريدها الميليشيا الكردية والتي تتضمن نوعا من التمثيل السياسي المتميز عن النظام.
- الفشل في الوصول إلى اتفاق مع تركيا التي قامت الميليشيا الكردية بمهاجمتها في مختلف المناسبات وأعلنت عداوتها بالتوازي مع خطابات دعتها للوصول إلى اتفاق من نوع ما.
نتيجة كل ما سبق تبلور مشهد معقد جداً في منطقة شرق وشمال شرق سوريا يتضمن حالة من التداخل والصراع على النفوذ وبسط السيطرة والموارد بشكل غير مسبوق، حيث تشهد المنطقة صراعاً بين المكون الكردي والعربي ونشاطاً لتنظيم داعش، وجوداً أمريكياً وإن كان محدوداً، وشكوى تركية مستمرة من تهديد لأمنها القومي بسبب العناصر الكردية المرتبطة بحزب العمال التي تنشط في المنطقة.
النظام في سوريا والسعي لفرض "الشرعية"
يستخدم نظام بشّار الأسد في الأساس العنف وسلطة الأقلية الطائفية للحفاظ على حكمه، فيتكيّف مع الظروف الجديدة حسب ما يلزم مع الحفاظ على السلطة الحقيقية مركَّزة في أيدي عائلته، أما حزب البعث الذي يمثل الحزب الحاكم في سوريا فقد تلاشى تقريباً، بينما فقدت القوة العسكرية دورها في التأثير بقرارات إدارة الدولة بشكل كبير وبدلاً منها ومن حزب البعث، يركز النظام على تقوية نوع من المنظومة الرأسمالية وأجهزة المخابرات، والسجون.
تعتمد آلية إدارة نظام الأسد للبلاد على التفرد بالحكم والاستئثار بالموارد والقضاء على المنافسين وإلغاء وجودهم، وبالتالي فلا مجال لخوض أي شراكات من أي نوع في السلطة، وهذا ما يبرر حالة الرفض الشديد من النظام لأي مشروع يؤثر على سيطرته وتفرده بالحكم بما في ذلك الحراك الذي انطلق في 2011 والذي لم يطالب في بدايته بتغيير نظام الحكم، وإنما فقط بإدخال إصلاحات على المشهد السياسي والأمني في سوريا تجعل من سوريا دولة أكثر عصرية وتشاركية، كان ذلك كفيلاً بأن يشن نظام الأسد واحدة من أعنف حملات القمع في التاريخ الحديث.
اليوم جميع الحلول المطروحة للخروج من الأزمة في سوريا -عدا المشروع الإيراني- بما فيها الحل الروسي تتضمن إصلاحاً من نوع ما في آلية الحكم هذه مثل تعديل صلاحيات الرئيس أو استبدال منصبه بمجلس رئاسي مكوّن من عدة أشخاص أو فصل تبعية الأجهزة الأمنية والعسكرية عنه وغيرها من الحلول التي تحمل في مضمونها ما يقلل من حالة التفرد بالسلطة في سوريا ومركزيتها.
الرفض الشديد للنظام لأي مشروع قد يفضي لحالة من التشارك في السلطة، يقابله رغبة وحاجة كبيرة للشرعية، فأغلبية السوريين اليوم الذين هم من المسلمين العرب السنة، لم يعد من الوارد قبولهم بحكم الأسد أو بعودة سوريا إلى ما كانت عليه قبل 2011، ولذلك يسعى الأسد ليفرض وجوده وشرعيته كأمر واقع عبر المحاولات الحثيثة لاستعادة السيطرة على الأراضي التي فقد سيطرته عليها وأصبحت تحت سيطرة المعارضة أو سيطرة الميليشيا الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، دون أخذ المظالم الاقتصادية المحليّة أو خطط إعادة الإعمار المستقبلية في الحسبان، كما يحاول تأطير الوجود الروسي والإيراني من خلال اتفاقيات رسمية تشرعن هذا الوجود وتنزع عن النظام -ولو شكلياً- صفة التبعية والارتهان لأطراف خارجية.
مشاريع الحل
خلال الفترة الماضية من الاحتجاجات في سوريا التي انطلقت في 2011، ظهرت العديد من المبادرات لحل الأزمة المتصاعدة في سوريا، بدءاً بالمبادرة العربية ثم مبادرات الأمم المتحدة التي تمثلت في ما بات يعرف بمسار جنيف، والذي تضمن مجموعة من اللقاءات الدولية والقرارات التي صدرت من قبل الأمم المتحدة وتضمنت خريطة فضفاضة للحل في سوريا.
المسار الآخر الذي تبلور وأصبح مساراً موازيا لجنيف هو مسار سوتشي/أستانة الذي يمثل حصيلة جهد تركي روسي إيراني للوصول إلى حل في سوريا. كلا المسارين من المفترض أن يفضيا بشكل ما إلى "سوريا جديدة" تعددية وديمقراطية.
مسار جنيف تعثر ووصل إلى طريق مسدود عندما لم تتمكن الأمم المتحدة من فرض رؤية وخطوات محددة لحل الأزمة في سوريا، واكتفت بوضع خطوط عريضة لمبادئ حل مقترح تم بلورتها في القرار 2254 الذي صدر عن الأمم المتحدة في 18 كانون الأول/ديسمبر 2015 وتضمن بدء محادثات السلام وأكد أن الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلاد دعا لتشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية مطالبا بوقف أي هجمات ضد المدنيين بشكل فوري[18].
أما مسار سوتشي وأستانة فنجح في تحقيق نوع من إيقاف النار في مناطق معينة من سوريا وخلق ما عرف بمناطق خفض التصعيد، بينما تم التخفيف من حدة الصراع في مناطق أخرى وهو ما اعتبرته الدول الراعية لهذا المسار وخصوصاً تركيا وروسيا نجاحاً غير مسبوق، لكن هذا المسار ورغم التعويل الكبير للدول الراعية عليه، لم يتمكن من الانتقال إلى الخطوة التالية المفترضة وهي عملية تشكيل اللجنة الدستورية التي من المفترض أن تقوم على كتابة دستور سوري جديد يفضي إلى عملية سياسية مقبولة من مختلف الأطراف ينتج عنها مشهد سوري جديد.
وبدلاً من أن يتقدم مسار أستانة نحو خطوة تشكيل اللجنة الدستورية التي فشل في المضي بها في الجولة الأخيرة (أستانة 12) التي عقدت أواخر نيسان/أبريل 2019، بدأت الأمور تعود لما قبل توقيع الاتفاق عندما بدأ النظام مدعوماً بالروس والإيرانيين بحملة تصعيد عسكري على منطقة خفض التصعيد الرابعة، تضمنت قصف المنطقة بمختلف الأسلحة بما فيها القنابل العنقودية والكلور وغيرها من الأسلحة المحرمة دولياً[19] بالإضافة إلى قصف نقاط المراقبة التركية المنتشرة في المنطقة ما أدى إلى مقتل جنود أتراك وهو ما كان يتوقع أن يكون سبباً لخلاف تركي روسي قد يؤدي إلى فك التحالف التركي الروسي وانهيار مسارات الحل التي يرعاها الطرفان (سوتشي/أستانة)[20].
وتخوض الدبلوماسية التركية تحركات واسعة منذ بدء التصعيد أواخر نيسان/أبريل 2019، تحاول من خلالها ايقاف التصعيد ودفع الروس لمنع النظام من القيام بمزيد من الهجمات والتراجع عن 16 قرية قام النظام بالسيطرة عليها خلال حملة التصعيد الأخيرة وهو ما لم توافق عليه روسيا بعد.
رغم الصورة المأساوية التي نتجت عن التصعيد العسكري الأخير للنظام والتي تضمنت سقوط آلاف الضحايا خلال بضعة أسابيع عدا عن مئات الألوف من النازحين والمصابين، إلا أنها أظهرت أمرين مهمين لم يكونا بحسبان الكثير من الجهات:
الأول: أن الأتراك ليسوا في معرض الانسحاب من سوريا أو ترك نقاط المراقبة الـ 12 التي تم نشرها، وعلى العكس واجه الأتراك الضربات التي وجهها النظام إليهم بمزيد من التعزيزات العسكرية في سوريا وبحشود كبيرة على الحدود مع سوريا، إضافة إلى تهديد بردّ قاس في حال تكررت عمليات النظام ضد النقاط التركية.
الثاني: التنظيم وحالة الصمود التي تميزت بها فصائل المعارضة السورية مقارنة بما كانت عليه قبل اتفاق سوتشي وأستانة، رغم شراسة الهجمة التي واجهتها هذه الفصائل وكثافة الغارات الجوية إلا أنها تمكنت من الحفاظ على معظم مواقعها وتمكنت من الدفاع عن معظم النقاط التي أرادت البقاء فيها، كما استطاعت استرجاع بعض المواقع التي خسرتها، وأوقعت خسائر كبيرة جدا في صفوف النظام الذي زج بمختلف تشكيلاته العسكرية مدعومة بالميليشيات الإيرانية في هذه المعركة.
حالياً يتم التحضير لعقد الجولة 13 من مسار أستانة، وسط توتر كبير في الأجواء واستمرار الحملة العسكرية للنظام وإصرار على قصف مواقع المعارضة والنقاط التركية، كما يتم التحضير لقمّتين أخريتين في تركيا، الأولى ستضم تركيا وإيران وروسيا بغرض إنجاح أستانة 13، والثانية ستضم ألمانيا وفرنسا وتركيا وروسيا بغرض مناقشة أوضاع المنطقة على المستوى الأمني بالذات والوضع في سوريا تحديداً.
خلاصات
- كل الحلول أو المحددات المطروحة للحل في سوريا من قبل الأطراف المختلفة والفاعلة -عدا الطرف الإيراني- تتضمن بشكل ما عملية تغيير أو إصلاح من نوع ما في طريقة إدارة وحكم سوريا، بينما يصر الإيرانيون على عودة سوريا إلى ما قبل 2011 كأساس لأي حل للأزمة السورية.
- الوجود التركي في سوريا سواء في منطقة درع الفرات أو عفرين (غصن الزيتون) أو إدلب (نقاط المراقبة)، لم يعد وجوداً هشّاً ولا يتوقع له أن ينتهي في الأمد المنظور القريب، وعلى العكس أظهر الأتراك إصراراً واضحاً على البقاء بل واستعداداً للاشتباك العسكري إن لزم الأمر دفاعاً عن وجودهم في إدلب والشمال السوري بشكل عام.
- الحالة الفصائلية في سوريا قطعت شوطاً جيداً في عملية التنظيم والتبلور إلى ما يشبه الجيش المنظم وأصبحت تعمل ضمن 4 مكونات رئيسية تضم كل التشكيلات المسلحة المناوئة للنظام (الجيش الوطني، جيش العزة، هيئة تحرير الشام، الجبهة الشامية).
- التصعيد العسكري الأخير بقدر ما كان سبباً لسقوط أعداد كبيرة من الضحايا وتشريد أعداد كبيرة أخرى إلا أنه مثّل أختباراً لقدرة الفصائل على الصمود بوجه الآلة العسكرية للنظام وحلفائه من جهة، ولجدية تركيا في لعب دور محوري في سوريا والدفاع عن مكتسباتها ومصالحها من جهة أخرى.
- التحالف التركي الروسي (إن صح التعبير) يبدو في أضعف حالاته بسبب ضلوع روسيا في التصعيد العسكري الأخير، وعدم التزام الأخيرة بجانبها من اتفاق سوتشي الذي يقضي بوقف إطلاق النار في المناطق التي تنتشر فيها نقاط المراقبة التركية، ولكن تركيا تبذل جهداً استثنائياً لاستنقاذ هذا التحالف والحفاظ على الاتفاقات الموقعة مع الروس بخصوص سوريا وتطويق التصعيد الأخير.
- الولايات المتحدة مصرة على بقاء الميليشيا الكردية بالشكل التنظيمي في شرق وشمال شرق سوريا وعدم تعرض الأتراك لها، ولا يبدو أنها ستسمح في المدى المنظور لتركيا بتنفيذ عملية عسكرية في المنطقة، على العكس من ذلك فإن الولايات المتحدة مستمرة في تقديم الدعم اللوجستي لهذه الميليشيات ومدها بما يلزم لترسيخ وجودها وسيطرتها.
- إيران تخوض تنافساً مع الروس على النفوذ في سوريا وبسط السيطرة على المؤسسة العسكرية والأمنية وغيرها من القطاعات في الدولة السورية بما ذلك الموانيء والمطارات وشركات الاتصالات وغيرها، وفي نفس الوقت هناك صراع إسرائيلي إيراني يتطور باستمرار، يتضمن قيام إيران بنشر نقاط عسكرية لها في مناطق قريبة من حدود الوجود الإسرائيلي لتصبح قطعات أو تجمعات إسرائيلية ضمن نطاق القصف الصاروخي الإيراني، بينما تقوم إسرائيل بتنفيذ هجمات صاروخية وجوية في كثير من الأحيان على هذه النقاط في محاولة لتحييد الدور الإيراني في سوريا ودفع الخطر عنها.
- قرار ترامب بالانسحاب من سوريا أحدث إرباكاً كبيراً في أوساط الأكراد ووسط الأمريكان أنفسهم، لكن يبدو أن الولايات المتحدة بدأت مساراً موازيا في التدخل فيما يجري في الشمال السوري تحاول من خلاله التعويض عن ضعف التأثير الذي قد يكون نتج عن الانسحاب من شرق سوريا.
- الميليشيا الكردية المدعومة من الولايات المتحدة والتي تبسط سيطرتها على مناطق مختلفة في شرق وشمال شرق سوريا، تحاول بشكل حثيث التحول إلى نوع من الإدارة المحلية المستقلة تحت مسمى الإدارة الذاتية، ويتضمن هذا المسعى أيضاً السعي للحصول على اعتراف من النظام بشرعية "الإدارة الذاتية" في مقابل السماح لمظاهر النظام بالعودة إلى مناطق سيطرة هذه الميليشيات.
- الشرق الأوسط ، "توتر قرب حلب بعد استهداف رتل عسكري تركي" ، 31 يناير 2018
- العربي الجديد ، "تنافس روسي إيراني على اقتسام سورية" ، 29 مارس 2019
- وكالة الأناضول ، روسيا وإسرائيل تتوحدان ضد إيران في سوريا ، 02 فبراير 2019
- قناة العالم، "روسيا تحسم الأمر حول انسحاب إيران من سوريا" ، 20 يوليو 2018
- عنب بلدي ، "إسرائيل تلمح إلى ضرب “بنك أهداف” إيرانية في سوريا (خريطة)، سبتمبر 2017
- معهد واشنطن، "حرب الشرق الأوسط الكبرى عام 2019"، 20 أغسطس 2018
- الألمانية، "على غرار القدس ـ ترامب يعترف بسيادة إسرائيل على الجولان"، 25 آذار/ مارس 2019
- فرانس24، "ترامب يأمر بسحب القوات الأمريكية من سوريا بعد تحقيق هدف "هزيمة" تنظيم "الدولة الإسلامية"، 19 ديسمبر 2018
- دايلي صباح، "العلاقات التركية الروسية.. تقارب وتباعد تفرضهما الظروف الإقليمية والمصالح المشتركة"، 23 يناير 2019
- قناة الغد، "انسحاب أمريكا من سوريا.. ترامب يمدد 4 أشهر وبومبيو: لن يغير التعاون مع إسرائيل"، 01 يناير 2019
- عربي بوست، "لماذا تقلق تركيا من الانسحاب الأمريكي من سوريا؟" 18 يناير 2019
- بريت ماكغورك - Brett McGurk، كان المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف العالمي لمواجهة داعش. تم تعيينه في هذا المنصب من قبل أوباما في 23 أكتوبر 2015، واستمر فيه مع ترامب واستقال لدى اتخاذ ترامب قرار الانسحاب.
- لجزيرة للدراسات، "تفاعلات العلاقة التركية الأميركية بعد قرار الانسحاب من سوريا"، 24 مارس, 2019
- مدونة هادي العبدالله، "فصائل الثوار تتسلم عتادا نوعيا جديدا من تركيا" 29 مايو 2019
- هو حزب سياسي كردي سوري أسسه قوميون أكراد عام 2003 في شمال سوريا، يتبع الحزب حزب العمال الكردستاني، المُدرج والمصنف كمنظمة إرهابية.
- الجزيرة، "تعرف على المجلس الوطني الكردي"
- زمان الوصل، "مستَقبلُ ميليشيات وحداتِ الحمايّة الكُرديّة YPG.. مهند الكاطع" 20 ديسمبر 2012
- الجزيرة، "من جنيف 1 إلى 8.. ماذا تحقق؟"
- شبكة بلدي، "شهيدان بقصف "عنقودي" على "موقا" في إدلب"، 13 يونيو 2019
- الجزيرة، "تركيا تؤكد تجدد قصف النظام السوري لنقاط مراقبتها"، 16 يونيو 2019