تأثر بأزمة 2019 وبعدوان إسرائيل.. ما سر ارتباط اقتصاد الأسد بلبنان؟
"لبنان هو المكان الذي يودع فيه رجال أعمال الأسد مدخراتهم ودولاراتهم"
عقب تكبيل نظام بشار الأسد بالعقوبات الغربية لقمعه ثورة السوريين عام 2011، شكل الجار اللبناني "سوقا حرة" للنظام وأذرعه للمناورة الاقتصادية والتجارية وسد العجز المالي.
إلا أن ضربة ثانية تلقاها اقتصاد النظام السوري تمثلت في شن إسرائيل عدوانا جويا وبريا على لبنان تحت مزاعم القضاء على حزب الله.
تعطيل التجارة
كانت الضربة الأولى سنة 2019 بسبب الأزمة الاقتصادية في لبنان والتي خلقت مشكلة في السيولة دفعت رأس النظام السوري بشار الأسد للاعتراف بوجود نحو 60 مليار دولار محتجزة في المصارف اللبنانية لرجال أعمال مقربين منه.
ونتيجة العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي بدأ في 23 سبتمبر/أيلول 2024 تعطل بشكل كبير تدفق البضائع التي كانت على مدار فترة طويلة تمثل "شريان حياة مهما" بالنسبة لدمشق.
وقد زادت حالات الانقطاع تلك من نقص السلع وفقدانها من الأسواق، ما تسبب في ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية بمناطق النظام السوري.
لا سيما أن الهجمات الإسرائيلية على لبنان عطلت شبكات التجارة غير الرسمية مع سوريا، وفق ما أفاد معهد الشرق الأوسط للأبحاث (مقره واشنطن) خلال تقرير له في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024.
يؤكد المعهد أن العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل بصورة مستمرة على جنوبي لبنان عطلت حركة انتقال السلع إلى سوريا، بما أن ذلك كان يعد شريان حياة اقتصاديا مهما بالنسبة للنظام السوري عقب عام 2011.
وقد تسبب التهديد بانقطاع مزيد من خطوط الإمداد الأساسية بضرر بالغ على أصحاب المشاريع التجارية في سوريا، كما خلف زيادة كبيرة في الأسعار.
ومن أكثر الآثار أهمية والتي خلفها ذلك بشكل مباشر الارتفاع الهائل في أسعار البنزين بشكل جنوني في السوق السوداء بدمشق.
إذ قفزت خلال بضعة أيام من 12 ألف ليرة سورية لليتر الواحد (أي ما يعادل 0.81 سنتا أميركيا) إلى 30 ألفا (أي ما يعادل دولارين ونصف الدولار).
وهذا الارتفاع الحاد في أسعار المحروقات أثر بشكل ارتدادي على بقية السلع الأساسية.
فمثلا تضاعفت كلفة نقل سلع مثل الفاكهة والخضار، ما أدى إلى ارتفاع في أسعارها بنسبة تراوحت ما بين 15-25 بالمئة في كثير من المناطق، وهذا ما تسبب في ضغط جديد على ميزانية الأسر السورية.
كما تفاقمت الأزمة بصورة أكبر بسبب تدفق الهاربين من لبنان إلى سوريا، حيث عبر الآلاف منهم عبر الحدود بحثا عن ملاذ آمن بعيدا الموت والقتل الإسرائيلي.
وهو ما جعل الموارد التي تعاني من ضغط بالأصل تصل إلى مرحلة الانهيار؛ لأن الزيادة المفاجئة في الطلب رفعت تكاليف المعيشة، وزادت من الضغط على الأسر السورية التي تكافح في سبيل العيش وسط هذه الأزمة الاقتصادية.
وأكد وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية عصام شرف الدين مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أن 162 ألف مواطن لبناني فروا إلى سوريا نتيجة العدوان الإسرائيلي.
فضلا عن عودة نحو 195 ألف لاجئ سوري من لبنان من أصل مليون ونصف المليون فروا من بطش النظام السوري عقب عام 2011.
ولم يؤثر انقطاع العمليات التجارية على السلع الاستهلاكية فحسب، بل أثر أيضا على توريد المواد الأولية اللازمة لتشغيل قطاع الصناعة في سوريا.
وذلك لأن أغلب تلك المواد تصل إلى سوريا من لبنان، ولهذا تسبب نقصها في زيادة تكاليف الإنتاج بالنسبة للصناعيين السوريين.
ويبلغ عدد سكان سوريا قرابة 25 مليون نسمة، منهم 15.3 مليون شخص مهجرون داخليا وخارجيا بفعل آلة الأسد العسكرية عقب قمع الثورة، وقد بات ما يقرب من 70 بالمئة من السوريين راهنا بحاجة إلى المساعدة الإنسانية.
ومنذ عام 2011، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على العديد من أعضاء الحكومة السورية والجيش وأفراد المخابرات من خلال تجميد أصولهم، وحظر الواردات والتجارة مع شركات محددة؛ وذلك ردا على القمع السياسي للمتظاهرين الذين انتفضوا ضد حكم بشار الأسد في مارس/آذار 2011.
وفي أغسطس/آب 2011، شددت الولايات المتحدة العقوبات ضد النظام السوري لتشمل فرض قيود على الواردات إلى سوريا، وعلى بيع النفط السوري، وغير ذلك.
لكن الضربة الكبرى التي تلقاها نظام الأسد تمثلت في إقرار الولايات المتحدة تطبيق قانون حماية المدنيين الذي يعرف بـ "قيصر" في 17 يونيو/ حزيران 2020، وخصص لمعاقبة الداعمين والمتعاملين مع النظام السوري.
تأثيرات مباشرة
أما الصناعات السورية التي تعاني في الأصل من آثار العقوبات، فقد باتت هي الأخرى تواجه عقبة تهدد وجودها بسبب زيادة الأسعار وضعف القوة الشرائية محليا وعدم قدرتها على الوصول إلى الأسواق العالمية إلا بصورة محدودة.
كما ساء الوضع أيضا بالنسبة للصادرات السورية، فقبل التصعيد الأخير، كان نحو 30-40 شاحنة تجارية سورية تعبر إلى لبنان كل يوم، لتنقل سلسلة من البضائع منها الملابس والمنتجات القطنية والمواد البلاستيكية والغذائية.
لكن استهداف إسرائيل للمعابر الحدودية وطرق النقل والشحن يكاد يوقف تلك التجارة.
وفجر 4 أكتوبر 2024 أدت غارة إسرائيلية على منطقة المصنع شرق لبنان وطالت معبر المصنع الحدودي مع سوريا، إلى قطع الطريق الدولية بين البلدين، على الرغم من وجود ستة معابر برية بينهما.
وانكشفت هشاشة اقتصاد نظام الأسد بشكل صارخ خلال الأزمة المالية في لبنان عام 2019، لكن خسارة بيروت التي تعد وجهة أساسية للصادرات السورية يمثل ضربة قاصمة لدمشق.
وبما أن لبنان يعد أحد الأسواق الأجنبية الناشطة المتبقية أمام سوريا، كما يعد مصدرا حيويا للقطع الأجنبي الذي يرفد خزينة الدولة، وفي ظل غياب هذا الدخل، تتعرض قطاعات الإنتاج الهشة بالأصل في سوريا إلى مزيد من العزلة والتراجع.
وهو "ما حول مسألة التعافي الاقتصادي في سوريا إلى حلم بعيد المنال"، وفق معهد الشرق الأوسط.
واعتمد النظام بشكل كبير على لبنان كقناة حيوية للالتفاف على العقوبات الدولية، لا سيما أنه يمتلك علاقات قوية مع الدولة اللبنانية.
إذ مكنت الموانئ اللبنانية، إلى جانب المعابر البرية الرسمية وغير الرسمية، سوريا من الوصول إلى الواردات الأساسية، بما في ذلك المواد الخام والسلع الاستهلاكية والوقود.
وقد كشفت وثيقة أمنية لبنانية عن وجود 136 معبرا غير شرعي على طول الحدود البرية مع سوريا، يتحكم بها مهربون ويتخصص بعضها بأنواع محددة من البضائع.
وتعجز الدولة اللبنانية عن التعامل مع هذا التهرب الجمركي نظرا لاستفحال وتنامي مافيات التهريب منذ أكثر من 25 عاما.
ووفقا لتقرير صادر عن موقع حزب "القوات اللبنانية" في 18 يونيو/حزيران 2021 فإن كلفة تهريب المحروقات إلى سوريا تبلغ نحو ملياري دولار سنويا.
ولفت إلى أن عمليات التهريب تتم بحماية من سماهم “قوى الأمر الواقع”، في إشارة إلى حزب الله، حليف النظام السوري.
"ضرر متوقع"
وفي إشارة إلى قلق حكومة نظام الأسد مما يجرى في لبنان الذي يعد "المتنفس الاقتصادي الآمن" لها، أشار أمين سر جمعية حماية المستهلك “عبد الرزاق حبزة” إلى "أهمية زيادة المخازن الإستراتيجية تحسبا للأيام القادمة في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية والإقليمية".
ولفت في تصريح لصحيفة "تشرين" المحلية مطلع أكتوبر 2024 إلى "أن النتائج لا تظهر بشكل جلي إلا بعد فترة في ظل توافد أعداد جديدة من النازحين أو انقطاع توافدهم".
من جهته قال عضو غرفة تجارة دمشق "محمد الحلاق" لذات الصحيفة إن فترات الأزمات تستدعي تقديم الحكومة تسهيلات كالتمويل، بحيث يتم الإفراج عن البضائع بشكل متواتر ولا تبقى في الموانئ بأي جمرك أكثر من 5 أيام.
وأضاف "الحلاق" أن “التجار العاملين في القطاع الغذائي لا يتبعون سياسة الاحتكار، بل يعملون بأعلى قدرة لديهم”.
لكن المشكلة أن سرعة دوران رأس المال بطيئة جدا إلى جانب حجم الاستنزاف في الاقتصاد مثل ارتفاع المصاريف والأعباء وكذلك حوامل الطاقة، وفق قوله.
وبسبب العقوبات الغربية التي حرمت سوريا من الوصول إلى النظام المالي العالمي، اعتمد النظام السوري في اقتصاده على الروابط المصرفية مع لبنان للحفاظ على استمرار الأعمال والتجارة خلال الحرب الدائرة في البلاد منذ أكثر من ثماني سنوات.
وضمن هذا السياق، قال الصحفي السوري علي إبراهيم، لـ "الاستقلال" إن "الكثير من العلاقات التجارية بين رجال أعمال سوريين ولبنانيين لاستيراد البضاعة من لبنان شبه متوقفة خشية استهدافها بشكل مباشر من قبل إسرائيل تحت شبه أمنية".
وأضاف إبراهيم: "كما أن الأسعار ارتفعت أكثر وبات التصريف داخليا في لبنان أعلى سعرا للمستوردين منذ اشتداد الحرب على لبنان".
ولفت إلى أن "لبنان، وخاصة قطاعه المصرفي، كان يمثل بوابة الاقتصاد السوري إلى العالم الخارجي منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين على الأقل".
وأردف: "بسبب عدم قدرة أذرع نظام الأسد المالية على تحويل الدولارات مباشرة إلى سوريا، لجأ السوريون خارج منطقة الشرق الأوسط إلى استخدام النظام المالي اللبناني في تعاملاتهم والالتفاف على قوانين العقوبات وتسهيل حركاتهم التجارية".
واستدرك: "لبنان هو المكان الذي يودع فيه رجال الأعمال والأفراد السوريون مدخراتهم ودولاراتهم، في حين تصدر بنوكه خطابات الاعتماد وغيرها من تسهيلات الدفع التي يحتاجها التجار السوريون لاستيراد السلع إلى سوقهم المحلية".
وأشار إلى أن "الحرب الحالية على لبنان ستزيد الضغوط على الاقتصاد السوري المتعثر أصلا خاصة أن الكثير من المواد الخام يجري استيرادها من ذلك البلد عبر شركات وهمية أو وسيطة للالتفاف على العقوبات".
وباعتراف حكومي رسمي، كان وزير التجارة الخارجية والاقتصاد في حكومة النظام السوري، محمد سامر الخليل، تفاخر، في أكتوبر 2021، بأن الالتفاف على العقوبات المفروضة على النظام أصبح "حرفة سورية"، داعيا الشركات التي تخشى العقوبات إلى أن تظهر بغير اسمها الحقيقي.
وفي سبتمبر 2023 كشف رئيس حكومة النظام السابق، حسين عرنوس، أن قيمة العجز في الميزان التجاري بين الصادرات والمستوردات منذ بداية العام المذكور وحتى نهاية شهر أغسطس، بلغت مليارا و641 مليون يورو.